مؤخراً ومع تداعيات ما جرى في العراق، وجد الأميركيون أنفسهم محصورين بين رئيس يغالي في طوباويته ومثاليته إزاء العراق، ومجتمع تحليلي لمّاح، يلفه اليأس والقنوط. فما المخرج؟، وفي أي الاتجاهات يسير الجمهور؟ إن هناك طرقاً أفضل للخروج من هذه المعضلة. وربما كان من الجيد أن نبحث عن هذا المخرج ابتداءً من التفكير فيما حدث في روسيا. وفي هذا، فإن لي نظرية خاصة تقول بـ"إمالة التاريخ". وتقول نظرية الإمالة هذه، إن الدول والمجتمعات والثقافات، لا تطرأ عليها تحولات مباغتة مفاجئة، وإنما تطرأ عليها التحولات، حينما تلجأ دولة أخرى إلى الدبلوماسية والقيادة الحكيمة، فتعمل على إمالة ثقافة أو بلد أو إقليم ما، كان قد جرى توجيهه أو -إمالته إن شئت- في الاتجاه الخطأ، على امتداد فترة طويلة من الزمن، فيجري تصحيح مساره أو إمالته، في الاتجاه الصحيح. وفي هذه العملية، فإن المتوقع للتحولات المنشودة أن تطرأ تدريجياً، وخلال مدى زمني، ربما يستغرق عقداً كاملاً من الزمان.
وفي اعتقادي الشخصي أن التاريخ سيتناول صفحات كل من الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، والسوفييتي ميخائيل جورباتشوف، وبرينت سكوكروفت، وجيمس بيكر، وهيلموت كول، ومارجريت تاتشر، وفرانسوا متران، بكثير من اللطف والرفق. ذلك أنهم جميعا شاركوا في إمالة الإمبراطورية السوفييتية، التي كانت قد مضت في الاتجاه الخاطئ على امتداد عدة حقب وعقود، وتعديل مسارها نحو الاتجاه الصحيح. والجدير بالاعتبار أن طلقة واحدة لم تطلق في عملية التصحيح هذه. ومما لا ريب فيه أن ذلك يعد إنجازا من أعظم الإنجازات التي شهدها القرن العشرون.
وعند هذه النقطة نثير سؤالا: هل تعد روسيا بوتين اليوم، ديمقراطية من طراز ديمقراطية جيفرسون؟ كلا... كلا بالطبع. لكن مع ذلك، تظل روسيا دولة كانت قد مضت كثيرا وطويلا في الاتجاه الخطأ، وها قد تمت إمالتها وتوجيه مسارها إلى الوجهة الصحيحة بعد لأي وجهد. أما التعريف المعياري الذي استند عليه في الحكم على اتجاه بلد ما نحو المسار الصحيح، فهو توفر القدر الكافي من السوق الحرة، وحكم القانون وحرية الصحافة وحق التعبير، فضلا عن توفر الحد الكافي والمعقول لتبادل الأفكار، التي هي بمثابة عامل مساعد، وعلى قدر كبير من الأهمية في تغيير مسار التاريخ. ولا شك أن هذه عملية تستغرق أحد عشر عاماً وتسعة أشهر، أو تستغرق باختصار حقبة بكاملها كي يكتمل نموها. وفي هذه الأثناء يكون جيل كامل قد شب وشرع يرسم ويخطط لمستقبل حياته، ويستكشف طاقاته وإمكاناته.
نخلص إلى أن مهمة بناء الديمقراطية هي عبارة عن عملية في حالة صيرورتها المستمرة، لا تتم دفعة واحدة ولا فجأة، إنما تتم بخطوتين إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف. ولهذا السبب، فما من أحد يمكن أن يصدق أي تصور طوباوي خيالي لإحداث التحول الديمقراطي المطلوب في العراق. فهذا الأخير شأنه شأن بقية الدول العربية الأخرى التي تحكمها القبلية في الأساس، ولا تكون الديمقراطية إلا خيارا ثالثا فيها لأفراد مجتمعاتها. فالخيار الذي لا يعلو عليه خيار آخر، في مجتمعات كهذه، هو "النصر لقبيلتي والهزيمة لغيرها". أما الخيار الثاني فهو "عَليَّ وعلى أعدائي". إلى هنا نكون قد وصلنا إلى الخيار الثالث والأخير:"الفوز لي ولغريمي".
وإنه ليحدونا الأمل في أن يعود العراق إلى الديمقراطية، إلى الخيار الثالث ذاك، ولكن على أن يتم هذا، ليس بقراءة قانون الحقوق الأميركي، وإنما بقراءة وضع العراق التاريخي الخاص، ومساعدة أهله على التوصل إلى قرار عملي، يقوم على أن التنازل والتفاوض بغية مشاركة السلطة واقتسامها فيما بينهم، هو أفضل لهم من الاستمرار في مواجهات عنف، وعنف مضاد لا قرار لها ولا آخر. لذا فإن الديمقراطية إنما ستضرب بجذورها في تراب العراق، ليس عن طريق المثالية وإنما الواقعية.
وللسبب عينه، فإنه ليس بوسعنا نحن الأميركيين، أن نحرر العراقيين، وهذا ما فشلنا فيه بالفعل. ذلك أن على العراقيين أن يحرروا أنفسهم. ولنا في اليابانيين والألمان أسوة حسنة في هذا. بقي أن نقول إن كل ما نأمل فيه، هو أن نمد لهم يد العون والمساعدة، كي يضطلعوا هم بمهمة إمالة بلدهم نحو الاتجاه الصحيح والإيجابي، بحيث ينشأ الجيل القادم من العراقيين، في بيئة، لا تعادي فيها الدولة قوى التقدم والقيم الديمقراطية، ولا تعمل فيها على إمالة العراق، مجددا نحو الاتجاه الخطأ.
وفي ظني أنه قد واتت لحظة الواقعية الهادئة الحكيمة. وبالواقعية، إنما أرمي إلى تركيز الجهد على ما يمكن عمله في العراق، وتقدير الحد الأدنى الذي نطلبه من العراق، وليس الحد "المثالي الأقصى" المطلوب منه. ما بين القوسين هنا، هي ملحوظة مستعارة من كتاب "معنى الرياضة" الذي صدر الأسبوع الماضي، لمؤلفه "مايكل اندلباوم"، خبير السياسات الخارجية لدى جامعة "جونز هوبكنز". ففي هذا الكتاب بيّنَ المؤلف ما هي الخطوط والتوازيات التي تقود بلدا أو فريقا ما، إلى طريق النجاح. وعلى حد قول المؤلف، فإن الحد الأدنى الضروري المطلوب