كان المواطنون العرب ينتظرون بلهفة وقلق أن تنعقد القمة فقد كان تأجيل موعد انعقادها مدعاة خوف من انفراط العقد العربي.
قال المتفائلون عسى أن تكون الخيرة في التأخير، فلعله يمنح القادة فرصة أوسع للتأمل والتدبير، ولاسيما أن أحداثاً ضخمة وقعت بين موعد التأجيل وموعد الانعقاد دفعت إلى رؤوس العرب دفق دماء التفجع والغضب مما وصل إليه الحال في العراق وفلسطين، وقد وصل الاستهتار الصهيوني بالأمة ومشاعرها إلى درجة غير مسبوقة من التردي، وكانت رسالة تطمينات الرئيس بوش إلى شارون قد ذكرت العرب بوعد بلفور. وقد عاد شارون من الولايات المتحدة مزهواً ليصاعد نشاطه الدموي في مسلسل إبادة الفلسطينيين وفي هدم منازلهم في رفح وسواها، وفي ذات الوقت تصاعد الوضع المأساوي في العراق، وكانت فضائح سجن أبو غريب قد قدمت للعرب نموذجاً مرعباً للديمقراطية الموعودة على الطريقة الأميركية، ولم يخفف من الشعور العربي بالقهر من هذه الديمقراطية سيل الاعتذارات الدبلوماسية، أو المحاكمات والتحقيقات الصورية. فقد كان المواطن العربي البسيط يبحث في حالة ذهول عن تفسير لأسباب ودوافع هذه الكراهية السوداء للعرب في نفوس الجنود الأميركان الذين جاءوا ليحرروا العراقيين من الظلم والطغيان (كما زعموا) فإذا هم يذيقونهم ألواناً عجيبة من الذل والهوان.
كانت رؤى المواطنين العرب لفاعلية القمة متباينة بين متفائل بفزعة عروبية على طريقة عمرو بن كلثوم الحماسية (ألا لا يجهلن أحد علينا.. فنجهل فوق جهل الجاهلينا) وبين متشائم لا يؤمن بتجريب المجرب، ويعتقد بأن مسؤولية التردي العام لا تقع على الأنظمة وحدها، وإنما تشاركها فيها نخب شعبية واجتماعية أسهمت بترسيخ الضعف عبر اندفاعاتها وراء زعامات خلّبية، أو عبر تواطئها من أجل مصالح خاصة. وقد عجزت الشعوب على مدى عقود من أن تحقق لنفسها حضوراً، يفرض مشاركتها في صنع القرار، ويجعل حكّامها يحسبون لها حساباً. والفساد ليس حكراً على الحكومات التي تفرزها النخب بطبيعة الحال، وإنما هو داء يتفشى كالوباء، ويسري في قاع المجتمعات ليطمس منظومة القيم والأخلاق، ويجعل النفاق والانتهازية واغتنام الفرص للمصالح الشخصية براعة وشطارة يتبارى فيها الفاسدون، فإن وصل أحدهم إلى موقع مسؤولية فإنه يحرص على جلب فاسد مثله أو قابل للفساد، وهو يستبعد الشرفاء لأنهم عبء عليه. وإن وصل أحد الشرفاء إلى موقع ما فإن الفاسدين سرعان ما يكيدون له، ويناصبونه العداوة، بل قد ينجحون في اتهامه بالفساد، وهؤلاء يخشون أن تقوى البلاد، وأن تترسخ فيها الديمقراطية لأنها تكشف المستور، وتحرم المستبدين من كم الأفواه، ولجم الأفكار، وهكذا وصل حال الأمة إلى هاوية من الضعف والتمزق، وهاجر منها كبار علمائها ومبدعيها، رغبة بعيش لائق، أو رهبة من حيف جائر، وهاجر ملايين الشباب العرب وهم طاقة التنمية، مشردين في أرض الله الواسعة، وهم المرشحون لمعاناة مقبلة في بلاد المغترب، حين يشتد الحصار على العرب.
والمتشائمون يعتقدون أن عامة من يجمعهم طبل ويفرقهم شرطي (كما يصفهم زعماؤهم) ممن يبوسون اليد وهم يدعون عليها بالقطع، هم الذين يسهمون في ترسيخ سلطة الفساد، لأنهم الإمعات. والمفارقة أن الأنظمة ذاتها بدأت تضيق بفاسديها حين بدت فواتيرهم باهظة عليها، وكثيرون من كبار المسؤولين العرب باتوا يعبرون عن خيبة آمالهم بمن وثقوا بهم وظنوا أنهم شرفاء، فإذا بعضهم يسقط في امتحان النزاهة ويبدو أسوأ ممن سبقه. وهؤلاء المتشائمون يرون أن غياب منظومة القيم الأخلاقية عامة، هو الذي رسخ الضعف والوهن في جسد الأمة، وأوصلها إلى هذا المنحدر الذي لم يكن أحد يتوقع أن تصل إليه أمة العرب الناهضة منذ أواخر القرن التاسع عشر، والتي حققت نهضة شاملة على مدى قرن من الزمان، ودفعت ملايين الشهداء ثمناً لحريتها واستقلالها، ولكن استرخاءها بين ترف باذخ، وفقر مدقع، وغياب العدل وسيادة القانون عن حياتها، أهلكها وأوصل الأمر فيها إلى غير أهله فراح قويها يفتك بضعيفها، ويتيح لعدوها أن يفترسها كلقمة سائغة، وقد رأت الأمة حصاد حكم صدام للعراق، وما جر عليها من بلاء، وقد آن لها أن تتعظ.
وبين المتفائلين والمتشائمين تبرز رؤية الواقعية السياسية التي تعالج الوضع بما هو عليه، وتنطلق من معطياته الراهنة، وترى أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان. فالعرب دول ضعيفة خرج أكثرها من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار المستتر، والمارد الأميركي يعيش ذروة سيادته على العالم كله، وهو اليوم مزهو بقوة عسكرية جبارة لم تمتلك مثلها إمبراطورية عبر التاريخ، وقد تمكن من السيطرة على مقدرات البشرية، ومن سوء حظنا، بل من قلة حيلتنا وضعف تدبيرنا تمكنت الصهيونية من النفاذ إلى عقل وفكر ومصالح الولايات المتحدة، واستولت على قرارها، حتى بات رؤساؤها المتعاقبون يستمدّون قوتهم من دعم الصهيونية لهم، مقابل أن ينفّذوا للصهيونية مشروعها التوسعي في بلادنا. وقد اتسع نفوذهم في العالم كله، ولم نعد نحن العرب وحدنا من يغصّ ويبتلع شعوره بالضعف و