قضية تعذيب السجناء العراقيين في سجن أبوغريب والصور العديدة والمقززة للممارسة السادية للجنود الأميركيين أحرجت إدارة الرئيس بوش ولعلها، وبرغم تحسن الاقتصاد الأميركي، ستكون إحدى مسامير نعش هذه الإدارة. كما أن هذه الأزمة الأخلاقية التي ولدت مما يفترض أنه جيش نظامي وجيش "محرّر" أضيفت إلى صعوبات وتراجعات العملية الأميركية لهندسة العراق سياسياً.
ومثل هذه الأدلة الفوتوغرافية أقوى بآلاف المرات من التقارير الصحفية والتغطية الإخبارية العامة، فانتهاك كرامة وشرف العديد من المتهمين والمتهمات وتصوير هذه الانتهاكات قوّض، وإلى درجة كبيرة، من أسس التواجد الأميركي في العراق. فالتحرير لا يمكن أن يكون هكذا والمحرّر لا يتصرف بهذه الطريقة، بل نتساءل ويتساءل العديدون، عن الفرق بين ممارسات أبوغريب المصورة وتلك غير المصورة في فترة صدام حسين. ونأمل أن نرى محاسبة حقيقية لهذه الانتهاكات التي تحولت إلى القضية الأولى عربياً وأميركياً وعالمياً، فمثل هذه المحاسبة تمثل مقياساً تراقبه العديد من الدول. ويبقى أن أية عقوبات ستتخذ وأية تعويضات سيتم دفعها فهي لن تزيل سمعة تلطخت حول الدور الأميركي في العراق ولن تنصف هؤلاء الموقوفين الذين تعرضوا لمثل هذه المعاملة غير الإنسانية على أيدي سجانيهم. وخلف كل ذلك نجد أن رغبة أميركا المعلنة بكسب قلوب وعقول الشعب العراقي تعرضت، على ما يبدو، لضربة قاضية من الصعب أن تفيق منها.
ويبقى أن نميّز، إن أمكن، بين هذه الفضائح وهذا العنف وبين المسار السياسي العراقي الذي لا يجب أن يتأثر بهذه التطورات. فاستقرار العراق وولادة نظام سياسي يتمتع بالشرعية ويمثل كافة قطاعات الشعب العراقي ضرورة ما قبلها ضرورة. وأما محاولات بعض المتطرفين لحجب هذه الحقيقة وإعاقة المسار السياسي، فهي محاولات يجب أن نضعها في إطارها الصحيح ألا وهو تخطيط أقلية لخطف إرادة الأغلبية والمتمثلة في إقامة حكومة ديمقراطية ونظام سياسي تعددي يأتي لهذا البلد المعذب بالاستقرار، تليه التنمية والتطور. ونعود ونكرر أن إغلاق البوابة الدموية في العراق يجب أن يتم وذلك لمصلحة العراق والمنطقة وأن يكون ذلك تمهيدا لعودة الشرعية الوطنية، ولو بصفتها الانتقالية، في الأول من يوليو. والأحداث في الأسبوع الماضي تبين وبوضوح أن مكمون العنف المخزن لم يستنزف بعد، بل على ما يبدو هناك احتياطات كبيرة تنتظر شرارة تفجرها على الساحة. ومثل هذه الحقيقة تدعو إلى التركيز على الأهم مع نهاية الاحتلال في الثلاثين من يونيو، وهذا الأهم هو المسار السياسي الوطني والذي نأمل أن يكون الجدل حوله بالكلمة وبالحجة لا بالإرهاب والعنف.
ولنا وقفة لابد منها مع الصور المقززة لقطع رأس الشاب نيكولاس بيرغ، وهذا العمل المشين لا يجوز أن نقبل حجة البعض أنه رد فعل على جريمة، أو جرائم، سجن أبوغريب، بل هو فعل أقلية إرهابية مارقة تحاول أن تخطف إرادة ورأي أمة بكاملها من خلال الإدعاء أنها تمثل هذه الأمة. وكلنا يدرك أن من يقتل الأبرياء في الرياض وجدة ويفجر في دمشق ويهدد في عمّان يضر بأهله ومجتمعه قبل أن يضر بالأعداء. فهذه الكتيبة الاعدامية الإرهابية ومن خلال وحشيتها تريد أن تفرض رؤيتها وأجندتها وأنظمتها "الطالبانية" على العرب والمسلمين، وهي في سعيها هذا تستغل التخبط الأميركي في العراق وفلسطين. وعلينا أن ندرك هذه الحقيقة وأن نميز بالتالي بين سعي هذه الفئة المارقة للتصعيد من خلال العنف ورغبة عالمنا العربي في إصلاح يتم من خلال قنوات الشرعية ويصاحبه الاستقرار الذي بدأنا نكتشف كم هو هش مقارنة بمخزون العنف والغضب واليأس المكبوت.
كان الأسبوع الماضي، وحتى بمقاييس المنطقة، دمويا ولا يمكن لنا في أوضاعنا السياسية والأمنية الحالية أن نتحمل مثل هذا الكم من العنف والإرهاب الذي يقوض من دعائم مجتمعاتنا ويهدد أسس حياتنا السياسية والاجتماعية. وعلينا كأغلبية صامتة أن نعبر عن مشاعرنا هذه والتي يحاول فريق أقلية أن يعبر عنها بطريقته لأننا صامتون.
Classifications
Comments and Actions
Received by RAPID Browser in collection proof2wep on Sat 15 May 2004 22:12 GMT+04:00
This item was derived from: مخزون العنف يتفجر/د. أنور محمد قرقاش/الإثنين/17-5-2004
Close Window X