الصور وحدها هي القادرة على اختزال الأحداث، تصعيدها وتركيزها، لكن لتكرار الصور ذاتها يوميا نتائج عكسية فهي تخدر وعي المشاهد وبالتالي يتحجر معها ضميره فلا يبدي ردود فعل تجاه القتل والدمار. فصور القتل بالعراق أصبحت لتكرارها تختلط بصور القتل بالأراضي المحتلة حيث تساوى المحتل الأميركي مع المحتل الإسرائيلي، ويتحول معها ملاحقة صور "خبر عاجل" إلى إدمان يصعب الفكاك منه. في الذكرى الأولى لإعلان واشنطن عن انتهاء الحرب رسميا في العراق والتي وافقت السبت الماضي تناقلت وسائل الإعلام الغربية ثم العربية صوراً جديدة، ولأنها جديدة كانت صدمة المشاهد، لم ننس صورة العراقي منسوفا على أيدي قوات صدام حسين، حتى تصدمنا صور العراقي مصلوبا بأسلاك قيل إنها مكهربة، ومن صور المقابر الجماعية الصدامية إلى صور الأجساد العارية المكومة. ابتسامات بحجم الموت وصور انتقلت من خانة السبق الصحفي إلى خانة الإدانة الدولية والاشمئزاز.
ومن سجن أبو غريب العراقي سيىء السمعة إلى سجن أبو غريب الأميركي تتكرر ذات الصور، والأغرب أن توثق، فماحدث في هذا المعتقل أعاد إلى الذاكرة صور التعذيب في عهد صدام حسين ولكن هذه المرة بطريقة أميركية، عار أميركي - بريطاني، مقارنة صور عراق صدام بصور عراق الاحتلال،وصمة عار بحد ذاتها قبل أن تكون الأفعال، فمن جاء محررا باحثا عن ديمقراطية تكون نموذجا للشرق الأوسط لاينتظر أن يعيد ذات الصور القديمة، هي انتهاكات صريحة لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية لاتبررها أكثر الاتهامات تطرفا بحق المسجونين، هي صور انتقام أم شماتة أم مجرد متعة سادية يمارسها عسكريون مهووسون يحتاجون معها إلى علاج نفسي طويل لتخليصهم من ساديتهم، نعم لن ننسى أن وسائل الإعلام الأميركية هي من كشفت هذه الممارسات، وفضح أمر هذه الممارسات المشينة فى حد ذاته دليل على ديمقراطية أميركا، لكن لن ننسى أيضا أن وزير الخارجية الأميركي يحرض على فرض رقابة صارمة على الفضائيات العربية حول التغطية الإعلامية العربية للعراق وما ينشر عن حال الأميركيين في العراق.
صفعة جديدة للإدارة الأميركية في فترة حرجة من سباق الانتخابات، وقبل أن يلتقط الديمقراطيون الخبر سارع الرئيس الأميركي إلى إعلان امتعاضه العميق لما شاهده من صور، مؤكدا أن معاملتهم لا تعكس طبيعة الشعب الأميركي وأنه سيتم التحقيق في القضية حسب الأصول، هي صفعة من المؤسسة العسكرية، وبين الجيش والاستخبارات الأميركية تقاذفت الاتهامات، فالضابطة الأميركية المسؤولة آنذاك عن المعتقل صرحت " بأن السجن الذي ارتكبت فيه تلك الانتهاكات كان يخضع لسيطرة مشددة من قبل مجموعة منفصلة من ضباط المخابرات العسكرية الذين تفادوا حتى الآن التعرض لأي لوم علني. لكن هل هذا يخلي مسؤوليتها، بانتظار نتائج التحقيق كل الاحتمالات مفتوحة. لكن لحسن حظ العسكريين الأميركيين فإن المحكمة الجنائية الدولية لاتملك صلاحيات في العراق، فالولايات المتحدة والعراق لم تنضما إلى الدول الموقعة على معاهدة روما التي انبثقت عنها هذه المحكمة المكلفة بالنظر في انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان، وبذلك ستوارى صور القضية بين جدران المؤسسة العسكرية.
صور التعذيب لم تصدم منظمة العفو الدولية التي كانت قد أشارت مرارا إلى انتهاكات جنود التحالف لحقوق الإنسان في العراق، وقالت المنظمة في بيان لها الجمعة إن هناك أزمة حقيقية في العراق نابعة من وجود معايير مزدوجة وتصريحات متباينة بشأن حقوق الإنسان.
ستستدعي صور السجناء العراقيين المزيد والمزيد من الغضب الشعبي العربي، وحتى لو اتخذت الإدارة الأميركية أقسى العقوبات ضد عسكرييها المتهمين ستبقى سلطة صور التعذيب الوحشي والإذلال راسخة في الوعي الجماعي تستدعي صورا مماثلة وتتراكم معها مشاعر الكراهية والعار. ما حدث في أبو غريب ليس غريبا على جدرانه لكنه غريب في زمن التحرير أو الاحتلال، وحتى نرى سبقا صحفيا جديدا ستبقى السلطة للصورة.