ربما أصبح في مقدور المراقبين الآن التقاط أكثر من مؤشر على المأزق السياسي والانتخابي الذي يواجهه الرئيس جورج بوش، وسيواجهه عاجلاًَ أم آجلاً، حليفه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. فنشر صور بعض المعتقلين العراقيين، وهم يتعرضون للإهانة على أيدي سجانيهم الأميركيين، التي نشرت بالتزامن مع بدء الانسحاب من مدينة الفلوجة، لم يفوِّت فقط ما كان يمكن استثماره من بادرة حسن نية مترتبة على الانسحاب وفك الحصار عن الفلوجة، بل أكثر من ذلك من شأن تلك الصور المُشينة أن تلحق ضرراً بالغاً إن لم نقل إنها تقوض من الأساس الدعوى الوحيدة المتبقية في جعبة جورج بوش. فقد ادعى الرئيس الأميركي، بوثوق يُحسد عليه، أنه دخل الحرب أصلاً واحتل العراق، من أجل العثور على أسلحة الدمار الشامل، التي لا يرقى لديه الشك في وجودها، ولكن أثراً لتلك الأسلحة لم يظهر حتى الآن. وجاء الرد قاطعاً من مفتشيه وموظفيه بأنها غير موجودة، فقرر على عجل القفز من على ظهر الحصان الخاسر إلى ما اعتقده حصاناً رابحاً، وهو الادعاء بأنه جاء لإرساء الديمقراطية في العراق، والمنطقة ككل، ولا شيء آخر، وأعاد بذلك تدوير ادعاءاته السابقة، وصاغ بهذه الطريقة أهداف حربه بأثر رجعي.
حسناً، والآن بعد نشر هذه الصور، التي أراد البريطانيون أيضاً أن يكون لهم نصيبهم من كعكتها، كما يقال، فنشروا في إحدى صحفهم، صوراً أكثر مدعاة للاستهجان والإدانة والاشمئزاز، بعد ذلك، هل ما زال ممكناً الحديث عن نشر الديمقراطية في العراق؟ دعك من المنطقة! أية ديمقراطية تلك التي تبدأ بهذه الصور، والمعتقلات والسجون الرهيبة، وسادية السجَّان، وآهات الضحايا؟ وهل سيصدق الأميركيون هذه الأسطوانة المشروخة بعد اليوم، ويتسامحون مع رئيسهم الذي شتت أذهانهم بادعائه كل يوم لأسباب جديدة للحرب، وترحيله للأهداف والمبررات التي دعت إليها؟ هذا عن الأميركيين، أما العراقيون فلا أعتقد أن موقفه خرج معززاً لديهم، لا بهذه الصور، ولا بإعلان أكثر من طرف في إدارته بأن ما سينالون بعد 30 يونيو سيكون "سيادة منقوصة"، ولاحِظ هنا التناقض في هذه العبارة المتنافرة في حد ذاتها!
مشكلة الرئيس الأميركي، في تقديري، أصبحت واضحةً بما فيه الكفاية. فهو بات أسيراً لهواجس الفوز والخسارة في انتخابات نوفمبر المقبل، وهو مستعد لتبني أي شيء، للفوز بتلك الانتخابات. فإذا كان تسليم السلطة إلى العراقيين يخدم تلك الغاية ويهدئ الوضع، فهو مستعد لذلك، بشرط ألا تخرج من بين يديه أية شاردة أو واردة تتعلق بالوضع في العراق. وإذا كان استدعاء الأمم المتحدة سيفيد حملته، فأهلاً ومرحباً بها في أي وقت، والطرق معبدة أمام عنان والإبراهيمي، لكن بشرط واحد هو ألا يتطرقا سوى إلى ما يريد هو أن يتطرقا إليه. وإذا كان السماح لشارون باختطاف بوش وإدارته سيمكن هذا الأخير من الفوز فهو مستعد لذلك، ومستعد لتقديم تعهد خطي لشارون، ولا أحد يعرف إن كان شارون قدم له هو تعهداً خطياً أيضا بضمان وقوف اللوبي الصهيوني الأميركي في صفه في نوفمبر المقبل. وهو مستعد لاستدعاء ألوية الحرس الجمهوري - ذي السمعة السيئة سابقاً - بشرط أن يساعد ذلك على تهدئة المشهد العراقي أمنياً حتى تمر الانتخابات القادمة بسلام، وليحدث بعد ذلك الطوفان!