في صباح يوم الجمعة الماضي خرجت الإدارة الأميركية على العالم بسياسة جديدة، تتعلق بمبادئ استخدام الألغام الأرضية المضادة للأفراد، وكيفية تقليص ضررها طويل المدى على المدنيين، بعد أن تنتهي العمليات العسكرية وتطوي الحرب أوزارها. ويمكن تلخيص مبادئ هذه السياسة في أن الولايات المتحدة، وعلى عكس غالبية دول العالم، لن تتوقف عن تصنيع وإنتاج واستخدام الألغام المضادة للأفراد، بل ستعمل على استخدام أنواع منها تدمر نفسها تلقائياً بعد فترة زمنية محددة مسبقاً. مبادئ هذه السياسة الجديدة والتي أعلنها "لنكلن بلومفيلد" مساعد وزير الخارجية الأميركي، تضمنت أيضاً وبشكل قاطع ونهائي، رفض الولايات المتحدة التوقيع على المعاهدة الدولية لحظر استخدام الألغام المضادة للأفراد، وهي المعاهدة التي وقع عليها حتى الآن أكثر من 150 دولة حول العالم. وقبل أن نعرض للآثار المتوقعة والمخاوف التي أثارها موقف الإدارة الحالية، يجب أن نتوقف قليلاً عند التاريخ المرير والواقع الحالي للألغام المضادة للأفراد، ومدى فداحة الضرر الذي يتسبب فيه هذا السلاح الحربي للعسكريين في أوقات الحرب وللمدنيين في أوقات السلم.
فالألغام الحديثة تعتبر من نسل وذرية بعض أقدم الأسلحة الحربية، التي كانت تستخدم لتحقيق أهداف محددة على صعيد التكتيكات الدفاعية. ومنذ القرن الثالث قبل الميلاد، لم يفتأ الإنسان في تطوير وتحسين الألغام، والتي شهدت نقلة نوعية ضخمة مع اكتشاف البارود في القرن الرابع عشر. ولكن لم تتمكن تلك المحاولات الأولية من إنتاج ألغام ذات فاعلية أو قدرة على تغيير مجريات الأمور في أرض المعركة. ولم تستخدم الألغام بشكل واسع النطاق، إلا مع بدايات الحرب العالمية الأولى في عام 1918، حين أصبحت تشكل جزءاً أساسياً من المنظومات الدفاعية للجيوش. ومثلما كان للحرب العالمية الأولى من أثر واضح في زيادة أهمية الألغام كسلاح دفاعي، نجحت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) في تسريع خطى تطوير الألغام لتصل في النهاية إلى شكلها الحالي. والغريب أن الألغام الأولية في هذه الحرب والموجهة ضد الدبابات، كانت ضخمة الحجم وقليلة الحساسية والفاعلية، إلى درجة أنه مثلاً حين يقوم جيش ما بزراعتها في مواجهة دبابات جيش آخر، كثيراً ما كان جنود هذا الجيش الآخر ينزعونها بسهولة ويعيدون زراعتها ضد دبابات الجيش الأول وهلم جرا. هذا الفشل المضحك للأنواع الأولية من الألغام، تولدت عنه فكرة جهنمية لا زال الجنس البشري يعاني من نتائجها حتى الآن. هذه الفكرة كانت عبارة عن اختراع ألغام صغيرة الحجم، بهدف وضعها حول الألغام المضادة للدبابات، لمنع جنود الجيوش المعادية من نزع الألغام الكبيرة وإعادة زراعتها.
ومنذ الحرب العالمية الثانية شهد إنتاج وبيع واستخدام الألغام الأرضية انفجاراً هائلاً، نتجت عنه زراعة أكثر من 400 مليون لغم منذ بداية تلك الحرب وحتى يومنا هذا، منها 65 مليوناً في العقدين الماضيين فحسب. فخلال الخمسة وعشرين عاماً الماضية فقط، قامت أكثر من 50 دولة بتصنيع أكثر من 200 مليون لغم، توجد منها 100 مليون تحت سطح الأرض، بينما توجد الـ100 مليون الأخرى في مخازن ومستودعات جيوش العديد من الدول حول العالم، هذا في الوقت الذي لا زالت مصانع الأسلحة حول العالم تنتج ما بين 5 إلى 10 ملايين لغم جديد كل سنة. والحقيقة الأخرى المؤسفة، أن معدل زراعة الألغام الأرضية الجديدة، يزيد ويفوق معدل ما يتم نزعه منها خلال جهود العديد من الحكومات والمنظمات الخيرية حول العالم، أي أن المئة مليون لغم التي تشوّه وجه الأرض الآن، يزداد عددها مع غروب شمس كل يوم جديد، هذا بالإضافة إلى أن نزع اللغم الواحد، يكلف 100 ضعف ثمنه الأساسي. ففي الوقت الذي يمكن شراء اللغم الواحد بحفنة دولارات، يتطلب نزع اللغم نفسه أحياناً أكثر من ألف دولار حسب دراسات الأمم المتحدة. هذا التاريخ الدموي والوضع الحالي والمأساوي للألغام الأرضية عرضت له بالتفصيل مجموعة من الكتاب في كتاب "حدائق الشيطان: تاريخ الألغام الأرضية" (The Devil's Gardens: A History of Landmines)، والمأخوذ عن السلسلة الوثائقية المشهورة التي كانت قد عرضت في التلفزيون البريطاني قبل سنوات، والتي أنتجتها وأخرجتها المجموعة نفسها. ويصف الكتاب مشكلة الألغام الأرضية بأنها "أزمة إنسانية دولية"، حيث تشوه الألغام وجه الأرض في العديد من بقاع العالم، بداية من جنوب شرق آسيا ككوريا وفيتنام ومروراً بالعديد من الدول الأفريقية ونهاية بجنوب لبنان وأفغانستان والعراق. هذا في الوقت الذي كان "جون مونان" قد عرض، وقبل عقد كامل، للآثار الاقتصادية للألغام الأرضية من خلال كتابه "الألغام والتخلف الاقتصادي" (Landmines and Underdevelopment)، وأظهر من خلاله الآثار المدمرة للألغام الأرضية على المقومات الاقتصادية للمجتمعات التي ابتليت بها.
ويمكن تقسيم الآثار السلبية للألغام الأرضية إلى قسمين: الأول هو القسم الإنساني والذي يتمثل في عدد الضحايا المدنيين الذين يسقطون