في بداية الستينيات، وبينما المد القومي في أوج مجده وعنفوانه، انطلق صوت أحمد سعيد الجهوري عبر إذاعة "صوت العرب" من القاهرة ليصبح المذيع رقم واحد لكل الشعب العربي من المحيط إلى الخليج. وكان سعيد يخصص ساعة من كل يوم لإذاعة برقيات التهاني الواردة من أبناء الشعب العربي من المحيط إلى الخليج لنجاح ثورة 23 يوليو في مصر وإنجازات قائدها جمال عبدالناصر.
وحدث أن وقع خلاف كبير بين عبدالناصر وقائد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالنظام الملكي في العراق عبدالكريم قاسم، فكانت إذاعتا "صوت العرب" من القاهرة و"صوت الجماهير" من بغداد تتراشقان على خلفية هذا الخلاف بالشتائم البذيئة والسباب والاتهامات بالتآمر وما إلى ذلك من اتهامات يتقنها العرب جيداً في خلافاتهم التي لا تنتهي عند حد.
إذاعة بغداد أرادت أن تجعل من أحمد سعيد و"صوت العرب" مسخرة للعراقيين، فأرسلت برقية من جهة مجهولة موقعة باسم "حسنة ملص" تنص على الآتي: "نيابة عن أهالي حي الطرب في البصرة، تهنئ السيدة حسنة ملص وبناتها بنجاح ثورة 23 يوليو وقائدها البطل جمال عبدالناصر، وتتمنى للثورة والزعيم المزيد من الانتصارات والنجاح.. التوقيع/ حسنة ملص".
وما أن وصلت البرقية إلى إذاعة "صوت العرب" ووقعت بيد أحمد سعيد، حتى قفز من الفرحة ظناً منه أنه عثر على صيد ثمين من بين أفراد الشعب العراقي يدين نظام قاسم، ففتح الميكروفون ليذيع البرقية في بداية البرنامج الذي خصصه لإذاعة برقيات التهاني..
وما أن انطلق صوت أحمد سعيد ملعلعاً كهدير محرك الطائرات عبر "صوت العرب"، حتى انفجر العراقيون الذين كانوا يستمعون للبرنامج بالضحك، وضحكوا كما لم يضحكوا من قبل، وانتشرت بينهم نكتة تحدث عنها العراقيون بطول البلاد وعرضها!
العراقيون فقط أدركوا أن أحمد سعيد شرب المقلب، حيث ظن أن "حسنة ملص" هذه شخصية مرموقة تمثل قطاعاً مهماً من قطاعات الشعب العراقي وخاصة في مدينة البصرة، ثانية كبرى مدن البلاد.. ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً، فلم تكن "الست حسنة" سوى امرأة سيئة السمعة جداً، تدير بيتاً من بيوت الدعارة التي كان مسموحاً بها أيام الوجود الإنجليزي في حي الطرب بالمدينة.. ولم تكن البرقية سوى استهزاء وطعم ابتلعه أحمد سعيد وإذاعة "صوت العرب" كجزء من الحرب الإعلامية بين بغداد والقاهرة آنذاك.
أورد هذه الحكاية التي يعرفها العراقيون الذين هم في العقد الخامس أو السادس من العمر اليوم، للاستدلال على تخبط وجهل الإعلام العربي، منذ عهد المد القومي وحتى يومنا هذا.. فإعلامنا العربي وكذلك أغلب الإعلاميين العرب، يتعاملون مع أي حدث إعلامي مثير أو ملفت للأنظار بمنطق رد الفعل وليس الفعل.. فالإعلام العربي فقد القدرة تقريباً على الفعل، وصار يتعامل مع الحدث برد الفعل فقط، وأصبح الإعلاميون في اندفاعاتهم أشبه ما يكونون بالثور الهائج في اندفاعه نحو قطعة القماش الحمراء.
وبنفس الطريقة التي ابتلع بها أحمد سعيد حكاية "حسنة ملص"، ابتلع أغلب الكتاب والإعلاميين العرب طعم الفضائية الأميركية الجديدة "الحرة".. فلقد هاجم الإعلاميون والمثقفون العرب في أغلبهم قناة "الحرة" حتى قبل أن يشاهدوها وقبل أن يعرفوا هويتها ومحتوى برامجها وطبيعة عملها!.. هاجموها فقط لأنها فضائية أميركية الوجه، عربية اللسان..
إعلامنا العربي ما زال يعاني من الجهل والتخلف والتبعية.. تبعية أنظمة فاسدة في أغلبها، تصادر الحريات وتكمم الأفواه ونحن في الألفية الثالثة!!