ينشغل المسؤولون العرب بعدة انشغالات جدية، يمكنها أن تحدّد المسؤوليات والمصائر لعدة سنواتٍ قادمة. وقد تجلّى ذلك على الخصوص في تحرك كلٍ من الرئيس المصري حسني مبارك، ووزير الخارجية السعودي سعود الفيصل.
أمّا تحرك الرئيس المصري فقد كان عربياً؛ بينما كان تحرك الأمير الفيصل عربياً وأُوروبياً. والانشغال الواضحُ على جدول أعمال الرجلين وغيرهما من المسؤولين العرب: مؤتمر القمة العربي، الذي تحدَّد مكانُ انعقاده، وتتبلور الآن موضوعاتُهُ الرئيسية أو الحاكمة. فقد جرى التجاذب كثيراً حول مكان الانعقاد، وإمكانه، حتى استقرَّ الأمر على تونس. وحتى ذلك الحين، ما كان الانعقاد بديهياً أو مسلَّماً به من جانب سائر الأطراف والمحاور؛ بسبب عُسْر الفترة وصعوباتها، وضآلة إمكانيات الحلول أو السير في طريقها.
وقد عبّر المسؤولون العرب عن ذلك تعبيراتٍ ملطَّفة عندما أظهروا طوالَ الشهور الماضية انشغالاً بإصلاح الجامعة العربية، باعتبارها الأداة شبه الوحيدة للعمل الجمَاعي العربي. وعلى رغم أنَّ الأمانة العامة للجامعة تملكُ مشروعها الإصلاحي؛ فـقد تقدمت عـدةُ دولٍ عربيـة (تسع حتى الآن) بمشاريعها للإصلاح. وقد تركَّزت نقاط الإصلاح في البداية حول نقطتين: إسقاط شرط الإجماع من آليات اتخاذ القرار، وتقوية الأمانة العامة للجامعة لمتابعة تنفيذ القرارات. بيد أنّ الأمر تجاوز ذلك الآن، لاعتراف الجميع أنّ عجز الجامعة العربية، لا تتركَّزُ أسبابُهُ في هذه الآلية أو تلك؛ بل هو تعبيرٌ عن خللٍ في الإرادة السياسية العربية، لا يمكن تجاوُزُهُ بهذا التغيير أو ذاك في ميثاق الجامعة. فقد كانت هناك قرارات جرى الإجماع عليها ثم لم تنفَّذ، وأُخرى تمت بالأغلبية ونُفِّذت. وهكذا لا بُدَّ من التفكر كيف تُصبحُ الجامعةُ العربيةُ بيئةً لتبلْوُر الإرادة السياسية العربية في أمرين رئيسيين: الاهتمامات والمصالح المشتركة، والموقف الواحد أو المنسَّق في العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية بالنظام الدولي. والواقع أنّ الجامعة العربية لا تُتيحُ لها بنيتُها الحالية اهتماماً جدياً بأيٍ من هذين الأمرين. فحركةُ الأمين العام للجامعة لا تعني شيئاً حتى الآن إلاّ إذا اقترنت بنُصرة مصر والسعودية لها، وهذا ما حاول الطرفان فِعْلَهُ في الأسابيع الماضية.
وقد قيل إنّ الاتحاد الأوروبيَّ مفكَّك البنية من الناحية السياسية؛ لكنّ هذا لا يبدو صحيحاً مقارنةً بالجامعة العربية. فالمفوَّض الرئيسي للشؤون الأوروبية يبدو صاحبَ دورٍ يتجاوزُ التنسيق، ويستطيع اتخاذ القرار. ثم إنّ المفوَّضين الآخرين يملك كلٌّ منهم ميزانيةً وقدرةً على الحركة لا يحلُمُ بهما الأمين العامّ للجامعة العربية. والمعروف أنّ اجتماع الثلاثة الكبار: الفرنسيين والألمان والإنجليز، الأسبوع الماضي، أثار حساسيةً كبيرةً بين بقية الأعضاء (وبخاصةٍ إيطاليا واليونان)؛ مع أنّ ذلك الاجتماعَ ما بحث ما يمكن اعتبارُهُ تجاوُزاً لصلاحيات الاجتماع العامّ أو الاجتماعات المشتركة للجان الاتحاد. بيد أنّ هذا الكلامَ العالي ضدّ "الاستئثار" و"التجاوُز" من جانب كبارٍ وصغارٍ في الاتحاد الأوروبي أو سيدخلونه الآن، يعني شيئاً واحداً: صيرورة الاتحاد ضرورةً لسائر الأوروبيين، وإحساس الأوروبيين بالتضرر الاقتصادي ثم السياسي (باستثنـاء بعض الإسكندنافيين) إن لم يشاركوا في القرار. وقد عانى الاتحاد الأوروبي في السـنتين الأخيرتين، مما تُعاني منه الجامعة العربية منذ سنوات. فقد برزت خلافاتٌ قويةٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ بين بعض الأوروبيين الكبار من جهة، والأميركيين من جهةٍ ثانية، وانحاز بعضُ الأوروبيين الكبار (بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا) وأكثر الصغار (الذين دخلوا حديثاً أو سيدخلون الآن)، للولايات المتحدة. ولذلك ظهرت لدى الكبار مشكلةٌ في التصويت ووزنه عند اتخاذ القرارات. كما ظهرت مشكلةٌ أكبر: هل تبقى البيئةُ الداخلية الأوروبيةُ هي مركز القرار على رغم مشكلات التصويت، أم يصبح للاتحاد مركزان، أحدهما داخل القارة العتيقة، والآخر خارجها؟! أو أنَّ الأمر ينبغي أن يُفهم على غير هذا النحو، بمعنى أنّ الاتحاد الأوروبي يبقى ضرورةً اقتصاديةً، ولا يتحول إلى بيئةٍ لتبلور إرادةٍ سياسيةٍ واحدةٍ أو منسَّقة؟ على أي حالٍ، وفي عودةٍ للجامعة العربية، لا تبدو المشاكلُ نفسها، ولكنْ هناك إشكالٌ فعلاً في الإرادة السياسية؛ وهي ضروريةٌ جداً للأقطار العربية أو دُوَل الجامعة، بسبب وجود مشكلاتٍ تتفاقمُ، ولا تستطيع دولةٌ عربيةٌ واحدةٌ أو دولتان حلَّها مثل قضية فلسطين، والآن احتلال العراق. وقد كانت مشكلات يوغوسلافيا والبلقان تحدياً حقيقياً لأوروبا، ما نجحت فيه كثيراً؛ ولهذا قوي جانب الولايات المتحدة من جديد في قلب القارة الأوروبية، وفيما يتجاوزُ المسائل السياسية أيضاً. عندنا تبدو المشكلة أصعب على الجامعة. فقوة الولايات المتحدة الظاهرة والبارزة في قلب العالم العربي، لا تُقابلُها صلابةٌ مثل الصلابة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي.
فالدول المستم