كثيرة هي التصريحات والوثائق والكتابات التي صدرت عن المسؤولين في الإدارة الأميركية حول الشرق الأوسط، بعضها محدد الهدف والتوجه والكثير منها غامض ومحير، وكأنها أحد ألغاز برامج المسابقات التي تبحث عن حل. لكن القراءة الواعية للوضع برمته، وتجميع الصورة الكاملة عن حقيقة التوجه الأميركي في الشرق الأوسط يشيران بوضوح إلى خطة متكاملة، محددة الأهداف، وخصصت لها وسائل للتنفيذ، وتثق الإدارة الأميركية بأنها تستحق النتائج المرجوة من الخطة.
لم يعد الشرق الأوسط كبيراً كان أم متوسطاً أم صغيراً يمثل منطقة المصالح الأميركية فحسب، بل هناك إصرار على "أمركته" من ناحيتي المكان والزمان، فالمكان تراه أميركا يضم دولاً إسلامية متمردة على السياسة الأميركية ودولاً عربية تصنفها على أنها منبع للإرهاب، أما الزمان فترى الإدارة الأميركية أنه يجب أن يكون أميركياً.
لقد بات الهدف الأميركي في الشرق الأوسط هو التطبيق الكامل "لعقيدة بوش" القائمة على انفراد الولايات المتحدة بقرارات الحرب والسلم في العالم. إنها الفرصة لتثبت أميركا هيمنتها وسطوتها ولتظهر للآخرين قدرتها على الفعل. وهذا يتطلب وضع الشرق الأوسط تحت الوصاية الأميركية، وأن تكون القيم والمبادئ الأميركية أساس العلاقات بين كياناته. ولذلك لن تتوقف أميركا كثيراً أمام مصالح المنطقة وقضاياها، ولن تشغل نفسها بهموم شعوبها، فلقد وفر تقرير التنمية الإنسانية العربية الغطاء الكافي لتتدخل أميركا بكل ثقلها في المنطقة لتحرر الشرق الأوسط من "الطغيان واليأس والغضب" كما أعلن الرئيس بوش في خطابه عن حالة الاتحاد يوم 20 يناير 2004. إذن الهدف الأميركي ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، فالإمبراطورية الرومانية الجديدة تريد أن تثبت ذاتها في هذه المنطقة بالتحديد.
من المؤكد أن الإدارة الأميركية تعلم أن الديمقراطية والحرية وتنمية دور المرأة في المجتمع قضايا تنبع من الداخل ولا تفرض من الخارج، لذلك فإن هدفها الحقيقي ليس إحداث التغيير في حد ذاته بل هذا هو رأس جبل الجليد فقط، أما باقي الجبل فهو تسليم الشرق الأوسط كبيراً كان أم صغيراً بالهيمنة الأميركية وانصياعه إلى كل أوامرها. وما يجري الإعلان عنه من قيم ومبادئ لا يخرج عن كونه أهدافاً سامية تخفي وراءها مصالح ذاتية.
أما عن وسائل تحقيق الهدف فهي عبارة عن خلطة أميركية على طراز "الفاست فود"، تجمع بين السياسة والاقتصاد والتعليم، وتسقط من حساباتها تاريخ المنطقة وخصوصيتها، أولاً لأن التاريخ يذكر شعوب المنطقة بالاستعمار والإمبريالية وهو أمر يجب أن تنساه، وثانياً لأن الرئيس بوش وزمرته يشعرون بأنهم يصنعون تاريخاً جديداً للعالم، وثالثاً لأن خصوصية الدول النامية والضعيفة في الشرق الأوسط في الدين والقيم والتراث مرفوضة ومستباحة في زمن الأمركة.
ولذلك تسارعت وتيرة المشروعات، بدءاً بمبادرة الشراكة في الشرق الأوسط التي طرحها وزير الخارجية الأميركي كولن باول في ديسمبر 2002، مروراً بتغيير الأنظمة الحاكمة باستخدام القوة العسكرية كما حدث في حالة العراق، ومساعدة المعارضة بالخارج والداخل على زعزعة الاستقرار كما هو مقرر ضد إيران، والتواجد العسكري المباشر في قلب المنطقة، ثم معركة تغيير الأفكار، واستخدام الدبلوماسية العامة لإحداث توازن بين الأمن والمشاركة في الدول المعنية من خلال حث السفارات والمنشآت الأميركية الأخرى على عدم التصرف وكأنها "قلاع صليبية" بل يجب أن ترتبط بقضايا السكان المحليين، والعمل على تغيير منظومة العدالة والتشريعات القانونية في الدول المعنية حتى أصبح السفراء الأميركان على قلة ثقافتهم في كثير من الأحيان يتدخلون في كل الأمور، والاعتماد على وسائل الإعلام الموجهة خاصة البث التلفزيوني الذي تعتبره الإدارة الأميركية من أنجع وسائل نشر القيم والمثل الأميركية في العالمين العربي والإسلامي، ناهيك عن ترجمة الكتب الأميركية ونشر التعليم الأميركي، والتمسك بأسلوب الإدارة العامة الأميركي، وإطلاق يد الليكود الإسرائيلي لإنهاء صراع القرن بين العرب وإسرائيل، بإقامة الجيتو الفلسطيني وفرض الهيمنة الإسرائيلية.
تشعر الإدارة الأميركية أن هذه الوسائل جميعها، مضافاً إليها تجهيز النساء لتولي مسؤوليات العمل السياسي، هي الطريق الوحيد لأمركة الشرق الأوسط. وإذا تعذر تحقيق ذلك فعلى الأنظمة الحاكمة أن ترحل، وإذا رفضت الشعوب ذلك فإن عليها أن تبحث عن مكان آخر غير الشرق الأوسط تعيش فيه.
إن المراجعة البسيطة لأنشطة الإدارة الأميركية خلال الفترة الماضية لتنفيذ مشروعات الشراكة تتيح لنا التعرف على مسار أمركة الشرق الأوسط، الذي يركز حتى الآن على اختراق المجتمعات في المنطقة، ومحاولة استقطاب المعارضة، ودعم المنظمات غير الحكومية، والنقابات المهنية، وفرض الرقابة على الانتخابات البرلمانية، والاهتمام بالمرأة، وتعليم الشباب أسلوب الحياة الأميركية، وكل هذا يقود إلى نتيجة واحدة هي إشغال الدول وإلهاء الشعوب بعيداً عن المسار الحقيقي لأم