تبني إسرائيل سياجاً أمنياً على طول ما يدعى بالخط الأخضر الذي يشكل حدود عام 1967 بين إسرائيل والضفة الغربية. وعلى رغم أن المسار النهائي للسياج ما زال قيد التفاوض، فإن عناصر المشروع الأخرى تتصف بالوضوح، إذ يتألف معظم السياج حسب المخطط من الأسلاك الشائكة، لكنه سيكون جداراً اسمنتياً في منطقة القدس المزدحمة بالمباني. أما امتدادات الجدار الحالية في الأراضي الفلسطينية فتطوّق المستوطنات الاسرائيلية، الأمر الذي يؤكد صحّة مزاعم الفلسطينيين التي تقول إن السياج الأمني هو في حقيقة الأمر ابتلاع للأراضي. أما الجدار الذي يخترق القدس فيشكل مشهداً قبيحاً يحيي في الأذهان صورة جدار برلين الذي بنته ألمانيا الشرقية في عام 1961. وقد كان الهدف من الجدار الإسرائيلي منع الفلسطينيين من التسلل إلى إسرائيل لارتكاب أعمال ارهابية، لكن الغاية من جدار برلين منع مواطني ألمانيا الشرقية من الهرب إلى الحرية في برلين الغربية.
وقد اتسعت دائرة الانتقادات الموجهة بشأن الجدار والسياج، وإذا ما اقترنت بتصريحات شارون التي أعلن فيها استعداد إسرائيل للانسحاب من غزة ولتفكيك المستوطنات الإسرائيلية القائمة هناك، فإنها تثير مخاوف من أن شارون سيقرر في نهاية المطاف ترسيم حدود إسرائيل مع كيان السلطة الوطنية الفلسطينية دون إجراء أية مفاوضات، ليترك للسلطة أو ما بقي منها أن تتدبر أمرها في منطقة تُعتبر أصغر مما هو ضروري لدولة فلسطينية تتمتع بمقومات الاستمرار. ويؤمن الكثير من الإسرائيليين بصواب فكرة الجدار ما دام الأمن محورها، ويشيرون إلى أن غزة محاطة منذ عام 1994 بسياج أمني إسرائيلي منع وقوع أية هجمات انتحارية ناجحة انطلاقاً من غزة. ومن المؤكد أن أحداث العنف وقعت بكثرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غزة، لكنها تركزت حول الوجود العسكري الإسرائيلي هناك والنزاع حول المستوطنات والردود الإسرائيلية على هجمات متكررة بقذائف الهاون على إسرائيل انطلاقاً من غزة.
وباعتبار أن معدل وقوع أعمال "الإرهاب" المباشرة القادمة من غزة قد بقي في حده الأدنى، فإن الإسرائيليين يؤمنون بأن تطويق الضفة الغربية بالسياج سيحقق فعالية مشابهة.
ومن سوء الحظ أن هناك انقطاعاً ما بين فوائد السياج الأمنية والآلام والمعاناة السياسية والإنسانية التي حلّت على الفلسطينيين الذين يجدون صعوبة أكبر في الوصول إلى أراضيهم، والذين يؤمنون بأن السياج سيكون هو حدود إسرائيل الدائمة. وما يجعل الموقف السياسي الراهن مثيراً للسخرية هو أن الحكومة الإسرائيلية لا تتفاوض حول مسار السياج مع الفلسطينيين بل مع الحكومة الأميركية، التي قابلت الخطة في بادئ الأمر ببرود، باعتبار أن السياج لم يكن نشاطاً محدداً بالتفصيل في خريطة الطريق التي رسمت خطوطها اللجنة الرباعية في ربيع عام 2003. لكن القيادة الفلسطينية الفاعلة غائبة، والأميركيون يرفضون التعامل مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات. ولذلك ترى الإدارة الأميركية أن بناء السياج واتخاذ شارون قراراً بإزالة المستوطنات من غزة يشكلان خطوة في الاتجاه الصحيح.
لكن هناك الكثير من الأمور التي قد تسير في الاتجاه الخطأ بخصوص السياج والانسحاب من غزة. فإذا لم يتبع السياج بدقة مسار الخط الأخضر، فإنه سيكون مصدر مقاومة مستميتة من جهة الفلسطينيين الذين أحالوا القضية إلى لاهاي. لكن نجاح السياج في تقليص عدد الهجمات الانتحارية سيعني أن إسرائيل قد تكون مستعدة لتأجيل أي قرار نهائي بشأن حدودها إلى حين يأتي فلسطينيون ذوي كفاءة وأهلية لتتفاوض إسرائيل معهم. ويثير القرار الإسرائيلي بالانسحاب من غزة جملة مختلفة من المشكلات. فإذا لم تستعد السلطة الفلسطينية للتعاون مع الانسحاب الإسرائيلي، فمن الممكن أن تقع الفوضى في أعقابه، بما في ذلك استيلاء حماس على السلطة. وعندئذ لا تلبث الصواريخ أن تنطلق إلى الأراضي الإسرائيلية فتضطر إسرائيل إلى الرد والانتقام. وإضافة إلى ذلك، يرى الكثير من الفلسطينيين نصراً لهم في الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة ، باعتبار أنهم شهدوا انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000. وستحتاج إسرائيل إلى إثبات أنها ما تزال القوة الساحقة في المنطقة وأنها قادرة على إعادة احتلال غزة في أي وقت. ومن شأن ذلك أن يمهّد الظروف لنشوء مستنقع دموي لا أمل فيه. أمّا شارون فسيكون في غضون ذلك قد قام بتنفير بعض أهم دوائره الانتخابية بسبب إخلاء المستوطنات.
ولا ريب في أن النتيجة ستكون تواصل تدهور الأوضاع إذا لم يتم تقديم الانسحاب من غزة مع السياج كجزء من خطة أكبر معنية بتسوية نهائية، بما في ذلك انسحاب إسرائيلي من مناطق أكبر في الضفة الغربية وعقد اتفاق مع الفلسطينيين بشأن وضع المستوطنات. ومن الممكن نقض هذا الاتجاه إذا توصل الفلسطينيون إلى تشكيل قيادة فاعلة وقادرة على عقد الاتفاقات مع إسرائيل، لكن الأهم أن تكون سلطة قادرة على الوفاء بها. غير أن هناك القليل من المؤشرات إلى إمكانية حدوث ذلك ما دام عرفات باقياً في السلطة.