منذ أن أعلنت الإدارة الأميركية مشروعها للتغيير في اتجاه بناء "الشرق الأوسط الكبير" وردود الفعل الخجولة حتى الآن، تتوالى. ففي العالم العربي شبه إجماع على أن التغيير لا يأتي من الخارج، ولا يفرض على أبناء أية دولة، بل يأتي نتاج عمل جدي يتناسب مع واقع وظروف كل دولة، مع الإشارة إلى أن الإدارة الأميركية لم تتشاور مع أحد في شأن مشروعها. أما في أوروبا فالفكرة لاقت ترحيباً من حيث المبدأ، لكن مختلف المواقف تلاقت مع الموقف العربي وقد عبرت عن ذلك سلسلة مواقف للرئيس الفرنسي جاك شيراك ووزير خارجيته دومينيك دوفيلبان، وغيرهما من مسؤولي الدول الأوروبية الذين أكدوا الحاجة إلى التغيير، دون إشعار أي من الدول المعنية بأن ثمة وصاية عليها حتى لو كانت من نوع الأبوة، ودون اللجوء إلى سياسة الفرض أو القوة!
لكن وزير خارجية ألمانيا يوشكا فيشر طرح مبادرة شاملة ضمنها مواقف وآراء لم تلق التأييد حتى داخل تجمعات كثيرة في ألمانيا خصوصاً في دوائر المستشار الألماني هيرغارد شرودر. وعلى رغم تأكيده على دور محوري للأمم المتحدة في العراق، في نقل السيادة ودعم إعادة البناء الديمقراطي، لضمان المشروعية المطلوبة للعملية، وعلى رغم تأكيده على ضرورة تفادي كل سوء فهم وأية صبغة أبوية في سياق تقديم المبادرة إلى كل الدول المعنية لا سيما منها الدول العربية، وهي مبادرة تدعو إلى نبذ العنف واعتماد الديمقراطية والتعاون الاقتصادي والحد من التسلح ونزع السلاح ونظام من الأمن التعاوني ومكافحة الإرهاب والتوتاليتارية، وإلى "إقرار سياسة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدولة والمجتمع ودمج الاقتصادات الوطنية وتكريس الحكم الرشيد والتزام حقوق الإنسان والحق والقانون ومشاركة المواطنات والمواطنين في عملية صنع القرار السياسي، ومساواة المرأة ودمجها في الحياة العامة، وإتاحة فرصة التعليم للجميع وبناء مجتمعات المعرفة···".
وعلى رغم أهمية هذه العناوين وعدم وجود خلاف حولها فإن الملفت في طرح فيشر في سياق قراءة وضع الشرق الأوسط تركيزه على اعتبار أن الحل في العراق لن يتحقق من دون عملية الإصلاح هذه، وأن الخطر الأكبر الذي يتهدد الأمن الإقليمي هو "الإرهاب الجهادي" المدمر بأيديولوجية التوتاليتارية··· ويعتبر فيشر: "أن الأهداف السياسية لهذا الجهاد هي خلخلة الاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط. ومحاولته توريط الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية في حرب حضارات الغرب ضد الإسلام، وأن يستفزه ليدفعه إلى المبالغة في ردود فعله أو حتى نحو اتخاذ قرارات خاطئة". والواقع أن مصطلح الإرهاب الجهادي هو مصطلح جديد يعتمد لاتهام القوى المناهضة لإسرائيل وأميركا وممارساتهما بتهديد الأمن والاستقرار. وإذا كنا نرفض أعمال كثيرين من الذين يدعون الإسلام ويتصرفون بما يتناقض مع تعاليمه الداعية إلى التسامح والتمسك بالقيم والأخلاق والاعتراف بالآخر واحترامه، وإذا كنا نرفض كذلك ممارسات آخرين يرفعون شعارات تنطلق من كونهم مكلفين بمهمة رسالية إليهم دفاعاً عن المسيحية وهم منها براء، ويدعون إلى صدام الحضارات، وإذا كنا ضد الصهيونية والإرهاب الذي تمارسه دفاعاً عن "اليهود" وكرد فعل مزعوم على المحرقة المدانة، فإننا في الوقت ذاته نتساءل:
1- لماذا خلا تقرير السيد فيشر والأسباب الموجبة لمبادرته من أية إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي كسبب أساس في المشكلة في المنطقة منذ عقود طويلة؟
2- أليست إسرائيل صاحبة أكبر ترسانة نووية في المنطقة رفضت ولا تزال ترفض كل الدعوات لإزالتها في إطار مشروع إعلان المنطقة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وآخر مبادرة في هذا المجال كانت تلك التي تقدمت بها سوريا إلى مجلس الأمن منذ أشهر وأجهضتها أميركا لأنها تقر بوجود الأسلحة الإسرائيلية لكنها تعتبره ضرورياً لحماية دولة الإرهاب والاحتلال "القلقة"!
3- لماذا الإصرار على الربط بين الحل في العراق، على قاعدة القرارات المتخذة، وخروج قوات الاحتلال وتعزيز دور الأمم المتحدة كما يطالب الجميع تقريباً، وبين الإصلاح؟ وماذا لو تأخر "الإصلاح الموعود" لأي سبب من الأسباب فهل يكون ذلك سبباً لبقاء قوات الاحتلال، ومستقبل العراق مفتوح على كل الاحتمالات الخطيرة بما فيها التفتيت؟
4- أليس أمن المنطقة مهدداً من قبل إسرائيل؟ ألم يطلع السيد فيشر على نتائج الاستطلاع الأوروبي التي أكدت أن 59% من الأوروبيين يعتقدون أن إسرائيل وأميركا هما خطر على السلام العالمي وليس فقط على السلام الإقليمي؟ ألم يطلع السيد فيشر أيضاً على الاستطلاع الأميركي الأخير - والذي أشرنا إليه في مقالة سابقة - الذي جاءت نتائجه لتؤكد أن 48% من الأميركيين يعتبرون أن إسرائيل تعد خطراً على السلام العالمي وأن 39% منهم يعتبرون دولتهم أيضاً خطراً على هذا السلام؟
5- ألا يدرك السيد فيشر وهو المعروف بسعة اطلاعه ومعرفته، أن الدعوة إلى صدام الحضارات انطلقت من الولايات المتحدة ويروج لها عدد من كبار المسؤولين في الإدارة