منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية أصبحت علاقة اليابان بالولايات المتحدة شبه عضوية بطرق شتى، بحيث إن تلك العلاقة أصبحت أمراً مسلماً به، فالبلدان يتشاركان في قضايا معاصرة عدة. ولكن منذ مدة يلاحظ أن الطرفين آخذان في التباعد عن بعضهما بعضاً شيئاً فشيئاً، وربما تكون اليابان هي التي بدأت في هذا التباعد، وذلك بعد أن استمرت العلاقات قوية جداً لما يزيد على نصف قرن وأثمرت ضمان مصالح اقتصادية وعسكرية-أمنية للطرفين.
وربما يعود هذا التباعد إلى كونه ردة فعل يابانية على الغزل الاقتصادي والاستراتيجي الذي تبديه الولايات المتحدة تجاه الصين، وعلى السياسة الأميركية تجاه المنطقة العربية وجوارها الجغرافي، وتحديداً مشكلة الصراع العربي - الإسرائيلي، وكردة فعل على تداعيات عولمة الاقتصاد العالمي، وإلى اقتناع اليابانيين بأن الحلول على الطريقة الأميركية ليست صالحة دائماً أو ذات علاقة لمعالجة مشكلات المجتمع الياباني.
ويعتقد العديد من المثقفين اليابانيين بأن الولايات المتحدة إذا شاءت أن تبقي علاقاتها مع اليابان بنفس قوتها، فإنها تستطيع إيقاف فرض طريقتها في معالجة الأمور على اليابان، ويرون بأن من واجب الأميركيين تفادي الانطباع الخاص الموجود لديهم بأن العولمة تعني الأمركة بالضرورة.
ومن خلال التعامل المباشر مع العديد من اليابانيين، اتضح لي بأن العديد منهم يعتقد بأن من الصعب جداً على أبناء الثقافات الأخرى فهم نمط (المزاج السياسي) الياباني، فالطبيعة اليابانية مختلفة جداً إزاء تكوينها ومنهجها بالنسبة لحل المشكلات. واليابان تعتبر على النقيض تماماً بالنسبة لقضايا كثيرة من النمط الأميركي، فهم شعب متجانس التركيب يزيد عمره بشكله الحالي على ألفي عام تخللتها استمرارية بالنسبة لوجود الأسرة الحاكمة في الوقت الذي لا يزيد فيه عمر التركيبة الأميركية بشكلها الحالي على 250 عاماً بأقصى تقدير.
إن التراث الثقافي الياباني يشير إلى وجود عائلة واحدة في شكل أمة مع ارتباط قوي بالصالح العام المشترك، في الوقت الذي يفتخر فيه الأميركيون بتباين خلفياتهم الثقافية، وبكونهم يعالجون مشكلاتهم بصوت عال يشترك فيه الجميع تقريباً إلى حد الاختلاف الشديد معتقدين أن الاختلاف هو الطريق الصحيح إلى الإبداع والابتكار السياسي. في الوقت نفسه فإن اليابانيين كأصحاب ثقافة شرقية يؤمنون بالانسجام التام في المواقف، ويفضلون النقاش الداخلي الهادئ والسياسات المدروسة التي تعمل على توحيد مواقف الأمة.
وفي هذا السياق فإن اليابانيين صبورون جداً في أعتى المواقف وخاصة السياسية، يستقبلون الآراء الأخرى بصبر وأناة ويحاولون استيعابها وهضمها ثم يحاولون الخروج بآراء عبقرية تقترب من حد الكمال، في الوقت الذي يلاحظ فيه على الثقافة السياسية الأميركية التململ السريع، وابتكار الحلول غير التقليدية، وتبدل المواقف وفقاً للظروف والمستجدات. وتعد النجاحات أو الإخفاقات اليابانية جماعية في الوقت الذي تعتبر فيه النجاحات والإخفاقات الأميركية فردية، فبالنسبة للثقافة اليابانية عندما يفشل المرء في معالجة شأن عام يكون مستعداً لتحمل النتائج السلبية منفرداً وذلك في صالح بقاء الجماعة متماسكة.
إن أهم ما يربط الطرفين هو الجانب الأمني، فبانتهاء الحرب العالمية الثانية سنّت اليابان دستوراً قلص من استخدامها للقوة العسكرية تجاه الدول الأخرى وحصرها في حق اليابان في الدفاع عن النفس فقط. ونتيجة لذلك اعتمدت اليابان على تواجد قوات الولايات المتحدة على أراضيها.
ولكن الظروف الدولية قد تغيرت عما كانت عليه خلال القرن الماضي، ونشأت تساؤلات جوهرية كثيرة، فكم هي مهمة الولايات المتحدة بالنسبة لليابان الآن؟ وكم هي مهمة اليابان بالنسبة للولايات المتحدة؟ آخذين بعين الاعتبار أن شرق آسيا أصبح الآن أكثر اضطراباً من ذي قبل نسبة إلى نمو الصين اقتصادياً وعسكرياً وحيازة كوريا الشمالية لأسلحة نووية.
إن الطرفين كلاهما لا زالا في حاجة إلى بعضهما بعضاً، فحاجة اليابان إلى الأمن ما زالت قائمة، وحاجة الولايات المتحدة إلى قوة اليابان الاقتصادية لا زالت قائمة أيضاً، فعلى رغم كل ما يقال عما يواجهه الاقتصاد الياباني من مصاعب إلا أنها تبقى على المدى الطويل مصاعب وقتية وعارضة، وسيبقى الاقتصاد الياباني داعماً لمواقف الولايات المتحدة في وقت الأزمات بشكل لا يمكن الاستغناء عنه. ولكن بغض النظر عن كل أشكال العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية القوية، وعن القدر الذي ستتغير فيه اليابان باتجاه الأخذ بالثقافة الغربية إلا أن جوهرها الثقافي سيبقى على ما هو عليه بشكل ربما يكون سرمدياً.