ما الذي يدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون إلى الإعلان "طوعاً" عن عزمه إخلاء مستعمرات صهيونية في قطاع غزة؟ ولماذا جاء الإعلان في هذا الوقت تحديداً؟ وهل تحمل هذه "المبادرة" جديداً يختلف عن النهج الشاروني المعهود سواء في التعامل مع الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة أو فيما يتعلق بقضية الاستيطان بوجه عام؟
لابد أن تتبادر هذه الأسئلة إلى الأذهان مع تباين ردود الفعل إزاء تصريحات شارون، والتي تراوحت ما بين الترحيب الشديد من جانب الإدارة الأميركية، والاتهام بالخيانة وتعريض مستقبل الدولة الصهيونية للخطر من جانب ممثلي المستوطنين، وبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية وتكتل "الليكود" الذي يتزعمه شارون نفسه.
ويبدو هذا الإعلان في ظاهره خروجاً على السياق الصهيوني والإقليمي والدولي، وكذلك على منطق سياسة التوسع الاستيطاني التي كان شارون أحد دعائمها تنظيراً وتنفيذاً. فعلى صعيد الدولة الصهيونية، شكَّل الاستيطان جوهر المشروع الصهيوني وعموده الفقري، وهو ما عبرت عنه صحيفة إسرائيلية بقولها إن "حركة الاستيطان توجد في قلب الصهيونية ولا وجود للصهيونية بدون استيطان" (Israel’s Business Arena, 31 March 2002). وكان الصهاينة الأوائل يطلقون على المستوطن اليهودي الذي يستعمر أرض فلسطين كلمة "حالوتس"، أي رائد، زاعمين أن هذا المستوطن يأتي إلى أرض بكر فيستولي عليها و"يطهرها" من سكانها ثم يحرثها ويزرعها ويحرسها بنفسه. وبعد إنشاء الدولة، أصبح نشر البؤر الاستيطانية والإغداق عليها وجلب المستوطنين للإقامة فيها نهجاً ثابتاً لجميع الحكومات المتعاقبة، وإن اختلفت فيما بينها بخصوص بعض التفاصيل الثانوية. وصار التوسع الاستيطاني إحدى الوسائل الأساسية لفرض وقائع جديدة على الأرض تضمن للدولة الصهيونية إحكام سيطرتها وتجعل لها الكلمة العليا والفاصلة في أية مفاوضات مقبلة.
ومن جهة أخرى، يبدو الإعلان وكأنه لا يتسق مع استمرار الحكومة الإسرائيلية في توسيع المستوطنات، حيث وافقت اللجنة المالية في الكنيست مؤخراً على تخصيص 22 مليون دولار لهذا الغرض (صحيفة يديعوت أحرونوت، 17 فبراير2004)، وكذلك استمرارها في بناء جدار العزل العنصري الذي يقتطع مساحات شاسعة من أخصب الأراضي الفلسطينية، تصل إلى أكثر من 23 في المئة من مساحة الضفة الغربية ونحو 65 من موارد المياه (موقع إسلام أون لاين، سبتمبر2003)، ويحول البلدات والقرى الفلسطينية المحيطة إلى سجون معزولة عن بعضها بعضاً.
وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، يبدو أي تراجع من جانب إسرائيل أمراً لا مبرر له في ظل الهيمنة الأميركية بعد احتلال العراق واستمرار الدعم الأميركي غير المشروط للدولة الصهيونية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، والذي كان من أحدث مظاهره على سبيل المثال الوقوف ضد صدور قرار من مجلس الأمن بعدم شرعية الجدار الفاصل، بل والاعتراض على مجرد إحالة الأمر إلى محكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري بشأنه.
هذا كله من الناحية الظاهرية فقط. ولكن الواقع أن إعلان شارون يحقق له عدداً من المكاسب الجزئية التي تتوافق تماماً مع ثوابت المشروع الصهيوني الشاروني المتمثلة في الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني وجعل أدنى طموحاته أمراً مستحيلاً، وترسيخ دعائم الدولة الصهيونية.
فالاقتراح، أولاً، يمنح الحكومة الإسرائيلية مهلة قد تطول عدة سنوات لإخلاء المستوطنات البالغ عددها 17 مستوطنة، وهو ما عبر عنه شارون بقوله إن عملية الإخلاء ليست هينة لأنها تتعلق بنحو 7500 مستوطن، ينبغي تدبير أماكن بديلة وتقديم تعويضات لهم (صحيفة هآرتس، 2 فبراير2004). وتحتاج الدولة الصهيونية إلى مثل هذه المهلة بشدة لتأجيل أزماتها الاقتصادية الطاحنة وتخفيف حدة الآثار الناجمة عن استمرار الانتفاضة الفلسطينية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قطاع غزة يمثل أحد المعاقل الأساسية لفصائل المقاومة الفلسطينية، كما كانت مستعمرات غزة هدفاً لأكثر من عملية فدائية ناجحة، مما أظهر فشل الإجراءات الأمنية الإسرائيلية، من جهة، وجعل استمرار حماية المستعمرات أمراً باهظ التكاليف، من جهة أخرى. كما أن هذه المهلة غير المحددة تتيح لشارون هامشاً كبيراً للمناورة، فباستطاعته التذرع في أي وقت بصعوبة إجلاء المستوطنين، والحصول من الحليف الأميركي على ملايين الدولارات مقابل استمراره في "التنازلات المؤلمة"، على حد قوله!
والاقتراح، ثانياً، يكفل لشارون التهرب من أية التزامات تضمنتها الخطة الأميركية المعروفة باسم "خريطة الطريق"، ومن بينها مثلاً إقامة دولة فلسطينية مؤقتة بحلول عام 2005 وإخلاء عدد من المستوطنات في الضفة الغربية، فضلاً عن "دفن" أي نقاش عما يسمى "قضايا الحل النهائي"، من قبيل وضع مدينة القدس وقضية اللاجئين وحق العودة والاستيطان الصهيوني. فما دامت عملية إخلاء مستعمرات غزة مطروحة ومفتوحة على أفق زمني غير محدود، فلن يكون هناك معنى للحديث عن أية قضايا أخرى، بل وسيمكن أيضاً إلقاء اللوم على الفلسطينيين في أي تعثر قد يصيب ه