إذا كان مشهد حافلة الركاب المدنية المدمرة والتي وضعتها إسرائيل في لاهاي أمام مبنى محكمة العدل الدولية يثير الإشفاق الإنساني لدى الأوروبيين وأصحاب الضمير الإنساني في أنحاء العالم حرصاً على سلامة المدنيين العزل.. وإذا كان الهدف الإسرائيلي إقناع العالم بأن الجدار العازل ليس سوى أداة بريئة خالية من الأطماع لحماية المدنيين ومنع تسلل الفدائيين الفلسطينيين لتفجير أنفسهم داخل المدن الإسرائيلية.. وإذا كان مشهد الحافلة والمصابين الإسرائيليين الذين أحاطوا بها ليعرضوا إصاباتهم على الرأي العام الدولي كضحايا أبرياء يخفي حقيقة النوايا الإسرائيلية لاستخدام الحجة الأمنية كستار كثيف لأطماع الحكومات المتعاقبة في إسرائيل على التهام مساحات من الضفة الغربية تصل إلى أكثر من خمسين في المئة.. وإذا كان هذا الجدار مقنعاً كوسيلة أمنية للحكومات التي قاطعت جلسات محكمة لاهاي تضامناً مع موقف إسرائيل.. فإنني أعتقد أن المطلب العربي والفلسطيني يجب أن يتلخص في عبارة واحدة تقول: انقلوا هذا الجدار إلى خط الحدود الذي كان قائماً في الرابع من يونيو 1967، فهذا هو السبيل الوحيد لضمان أمن المدنيين الإسرائيليين والذي ينزع فتيل التفجير الذاتي من نفوس الفلسطينيين.
لقد كان رئيس الوفد الفلسطيني موفقاً غاية التوفيق في مرافعته الافتتاحية أمام المحكمة عندما أوضح أن العمليات الانتحارية غير قانونية ولا تخدم الحقوق العادلة للفلسطينيين غير أنها تأتي رداً على أمرين: الأول الاحتلال الإسرائيلي الذي تواصل لأكثر من ربع قرن. ذلك أن أول عملية من هذا النوع لم تقع إلا بعد مرور سبعة وعشرين عاماً على بقاء الاحتلال. أما الأمر الثاني الذي تأتي العمليات لترد عليه فهو عمليات القتل غير القانوني التي تقوم بها قوات الاحتلال للمدنيين الفلسطينيين. وهنا وضع رئيس الوفد الفلسطيني الأرقام الواضحة ذات الدلالة القاطعة على كون العمليات الفلسطينية اضطراراً فلسطينياً ناتجاً عن اليأس من إنهاء الاحتلال والقهر الذي تمارسه سلطات إسرائيل. تقول الأرقام إن إسرائيل قد قتلت منذ سبتمبر 2000 بشكل مباشر بما في ذلك الإعدام خارج القانون 2770 مدنياً فلسطينياً بينهم أطفال ونساء ورجال، في حين أن العمليات الفلسطينية التي جاءت رداً على عمليات القتل الإسرائيلية قد أدت إلى قتل 432 شخصاً في داخل إسرائيل بالإضافة إلى 490 من المستوطنين والجنود قتلوا بأشكال أخرى من العنف.
إن المعنى الواضح لهذه الأرقام يفيد أن العلة الكبرى لافتقاد الأمن الإسرائيلي هي استمرار الاحتلال والبطش الذي يمارسه. وإذا كان هذا المعنى يتصل بالماضي والحاضر فإن المعنى المتصل بالمستقبل يشير إلى أن فتيل اليأس الفلسطيني من الحصول على دولة على كامل أراضي الضفة وغزة طبقاً لمرجعية مدريد وقرارات مجلس الأمن خاصة القرار 242، سيظل قادراً على شحن النفوس الفلسطينية بالميل إلى تطبيق مقولة شمشون الذي دمر المعبد على رأسه ورؤوس أعدائه في الوقت نفسه.. عليّ وعلى أعدائي. وإذا كانت القيمة التي ينطوي عليها حكم المحكمة بشأن مشروعية أو عدم مشروعية الجدار ستبقى محصورة في كونه حكماً استشارياً للجمعية العامة للأمم المتحدة وبما أنه لا يملك قوة إجبار إسرائيل على إزالة الجدار إذا ما صدر ضدها ونظراً لكون الحجة التي استخدمتها الولايات المتحدة وأوروبا لمقاطعة المحكمة تتصل بحرصها على تطبيق خطة خريطة الطريق·· فإن المتوقع من المجموعة العربية أن تبلور موقفاً في القمة العربية القريبة يمكننا من تحقيق أمرين: الأول الانتفاع بالقوة القانونية للحكم بعدم شرعية الجدار لإقامته على أراضي إقليم خاضع للاحتلال وهو ما تحرمه قواعد القانون الدولي التي تحظر على قوة الاحتلال إجراء أية تغييرات في طبيعة الإقليم المحتل. والثاني دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة باعتبارهم أعضاء اللجنة الرباعية الدولية المكلفة بتطبيق خطة خريطة الطريق وإقناعهم بضرورة نقل الجدار من داخل الإقليم الفلسطيني إلى خط الحدود الفاصل بين إسرائيل وهذا الإقليم في إطار الخطة.
إن بلورة هذا المطلب العربي في القمة المرتقبة يصبح أمراً حيوياً إذا أردنا الانتفاع بالقوة المعنوية لحكم المحكمة وتحويلها إلى قوة دفع سياسي للقوى الكبرى حتى لا نعيش حالة احتفالية بالحكم كتلك التي عشناها منذ صدور القرار 242 عام 1967 عن مجلس الأمن والذي ينص على عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة العسكرية بدون أن نجد الآلية السياسية لتطبيقه على أراض الواقع.
إن ابتكار الآلية القادرة على إقناع الإدارة الأميركية الرئيس الفعلي للجنة الرباعية الدولية بضرورة نقل الجدار إلى حدود 1967 هو التحدي الرئيسي المطروح على القمة العربية المقبلة. إن محددات ابتكار وصياغة هذه الآلية ظاهرة في الواقع الدولي والإقليمي ويمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
أولاً: أن الرئيس الأميركي بوش قد قدم وعداً رسمياً بإنجاز حل للصراع يستند إلى إقامة دولة فلسطينية طبقاً