تلطّخ وجه القرن العشرين كغيره من القرون بدماء أبرياء سفحتها عمليات الإبادة الجماعية والقتل الجماعي لأسباب إثنية وقومية وعرقية ودينية واقتصادية. وقد صاغ العالم البولندي رافائيل ليمكن في عام 1944 مصطلح الإبادة الجماعية ليصف ما مارسته النازية أثناء الحرب العالمية الثانية من عمليات إفناء وقتل منظم لغير الألمان بطرق مباشرة وغير مباشرة.
وقد اختلف المتخصصون كغيرهم حول تعريف دوافع عمليات الإبادة الجماعية والقتل الجماعي، فاختلفوا في مواقفهم منها ومن مرتكبيها. ولذا أتت من البعض صكوك غفران لمرتكبي هذه المجازر حين وصفوها بتعاريف مثل الحروب الأهلية وغير الأهلية، والعمليات العسكرية والتدخل العسكري وغير ذلك. ورأى كثيرون أن في مقدمة أسباب هذه المجازر تبرز الكراهية العرقية والإثنية وأنظمة الحكم اللاديمقراطية والاختلال الوظيفي في المجتمع. غير أن بنيامين فالنتينو خالف هذا الخط وأتحفنا بعرض فريد وعميق ومنهجي لهذا الموضوع في كتاب له حمل عنوان "الحلول الأخيرة: القتل الجماعي والإبادة الجماعية في القرن العشرين"، وهو إصدار جديد يأتي ضمن سلسلة جامعة كورنيل الأميركية للدراسات المعنية بالشؤون الأمنية.
وقد آثر فالنتينو، وهو أستاذ مساعد لمادة أنظمة الحكم في كلّية دارماوث كوليج في ولاية نيوهامبشاير الأميركية، ألاّ يجعل تحليله المنهجي مقتصراً على العنف الموجّه ضد المجموعات الإثنية والعرقية، وألاّ يبقيه محدوداً في نطاق محاولات تدمير وإفناء المجموعات البشرية. ولذا من المثير هنا أن فالنتينو يرى أن الساسة والزعماء والقادة يقفون بغاياتهم وأغراضهم الشخصية وراء تلك المذابح الجماعية، كما يرى- خلافاً لما هو سائد في الأوساط الأكاديمية والبحثية- أن الدافع نابع من مصالح ورؤى مجموعة صغيرة نسبياً من الأفراد الأقوياء أصحاب النفوذ والسيطرة، وأن تنفيذ تلك العمليات لا يحظى في معظم الأحيان بدعم وتأييد فاعل من المجتمع الأوسع نطاقاً. ولذلك يقول فالنتينو إن عمليات القتل الجماعي ليست إلاّ استراتيجية وحشية سياسية أو عسكرية الغرض منها تحقيق أهم أغراض الزعماء والقادة، ومواجهة ما يتهدد نفوذهم وسلطتهم، إضافة إلى رغبتهم في حل أصعب المشكلات التي تواجههم.
ولم يحجم فالنتينو، الذي حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وهو من أهم وأرقى الصروح التعليمية والعلمية والفكرية في الولايات المتحدة والعالم، عن إطلاق تعريف جديد لعمليات الإبادة الجماعية والقتل الجماعي فيقول إنها تعني القتل العمد لعدد كبير من البشر غير المنخرطين في أعمال قتالية وحربية، وهو يتبنى لهذا معياراً عددياً يقتضي أن يكون عدد الضحايا 50 ألف ضحية أو أكثر وفي نطاق خمس سنوات، أي بمعدل 10 آلاف ضحية في السنة، وهو ما يجعل الكثير من عمليات القتل التي شهدتها مناطق العالم تندرج في تعريف عمليات الإبادة الجماعية. غير أن فالنتينو يركّز على ثلاثة أنواع فقط من عمليات القتل الجماعي والإبادة الجماعية التي جرت وقائعها في سنوات القرن العشرين. أولاً، هناك عمليات القتل الجماعي الهائلة التي نفّذها الشيوعيون، ومنها تلك التي حدثت في الصين وفي الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين، وكذلك في كمبوديا التي شهدت مصرع ما بين 1.2 إلى 1.8 مليون إنسان على يد قوات الخمير الحمر الشيوعية. ثانياً، عمليات الإبادة الجماعية العرقية والإثنية التي حدثت في مناطق مثل أرمينيا وألمانيا النازية ورواندا، وفي البوسنة حيث سقطت أعداد هائلة من المسلمين ضحايا للتعصب الصربي والغايات والمصالح السياسية. أما النوع الثالث فهو ما يسميه فالنتينو بحملات حرب العصابات المضادة، وهي تشتمل على الحروب الأهلية الوحشية في بلدان مثل غواتيمالا. وقد أراد فالنتينو أن يقتصر كتابه على هذه الأنواع الثلاثة، لكي يتمكن من تحقيق الإحاطة الشاملة بها بحياد موضوعي واضح وبمنهجية بحثية ودقة في سرد الوقائع التاريخية والظروف والأسباب والمنطق السائد الذي يحكم عمليات الإبادة الجماعية التي لم تصبح جريمة في عرف القانون الدولي إلاّ عام 1951، أي بعد أن تم تنفيذ مجازر كبرى قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
لكن من المعلوم أن عمليات الإبادة الجماعية أصبحت في القرن العشرين جزءاً من سياسة بعض الأمم وأداة تنفيذية بيدها؛ ويرى بعض المتخصصين في علم الاجتماع أن 16 أمة تقريباً ارتكبت أو حاولت ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الحكومة التركية القومية عمدت بعد الحرب العالمية الأولى إلى ترحيل وقتل 1.8 مليون أرمني في المناطق الشرقية من تركيا. ومن المعلوم أن النظام النازي أطلق في أثناء الحرب العالمية الثانية حملات منظمة ومنهجية لقتل الملايين من غير الألمان، وهي المجموعات السكانية التي كان النازيون يعتبرونها غير مرغوب فيها ولا في تواجدها على التراب الألماني النازي. وتندرج مذابح الأرمن والمذابح النازية والمذابح الكمبودية على يد الخمير الحمر(الحزب الشيوعي ال