أخطأ الفلاسفة السياسيون أم أصابوا، فإن لأفكارهم دائماً، سطوة وتأثيراً خاصين على المجتمعات في كل العصور. وفي وسع المرء أن يسطر قصة القرن العشرين مثلاً على أنها سجل حافل بالإنجازات والتقدم التكنولوجي الهائل. كما يمكن تصويرها على أنها قصة صعود وانهيار القوى والعروش والامبراطوريات. وبالقدر ذاته فإن في الإمكان تصويرها باعتبارها قصة النهوض المأساوي والمضني، من السقوط في مستنقع البربرية الحديثة المعاصرة. باختصار فإن من الممكن كتابة هذه القصة بألف طريقة وطريقة. غير أنه لن يكون لها مغزى أو معنى، فيما لو حذفت قصة الفكر منها، سيما الفكر السياسي عند تناول الظواهر السياسية لمدة زمنية تغطي قرنا بأكمله.
في هذا المنحى كان قد صدر في اللغة الإنجليزية كتاب كلاسيكي في عام 1947 بعنوان "تاريخ الفكر السياسي الغربي". وهو من تأليف الكاتب البريطاني جون باول. يبدأ الكتاب بتغطية تاريخ وحضارات منطقة ما بين النهرين، وينتهي بالحديث عن الفيلسوف السياسي والمفكر الفرنسي جان جاك روسو. وعلى رغم الفائدة العلمية للكتاب المذكور، إلا أنه كان ثمرة حب هاوٍ لعلم التاريخ أو قل لسرد قصة التاريخ على طريقة الهواة. ولكن لم تعد كتابة التاريخ مهنة يمارسها الهواة كما كانت في سابق عهدها في الكثير من الدول. فمع وجود قسم محترف مثل قسم التاريخ في جامعة كامبردج، حدث تحول راديكالي تام في نهج كتابة هذا العلم والتأريخ للأحداث والظواهر المختلفة التي يشهدها العالم، من تلك التي ترسم ملامح الحياة وتحدث أثراً عميقاً وعاماً فيها. وفي هذا الإصدار الذي نعرضه اليوم، نتعرف على الجهود العلمية التي يبذلها قسم التاريخ في تدوين قصة العصور المختلفة، بدءا من العصر اليوناني الكلاسيكي. كان قد سبق لهذا القسم أن أصدر مجلدا من ثلاثة أجزاء، يغطي الفترة الممتدة من الحضارة اليونانية القديمة، مرورا بالحضارة الرومانية وحتى القرن السابع عشر الميلادي. ثم أكمل القسم مؤخرا هذا الجهد بالإصدار الذي نعرضه اليوم، وهو يتألف من ثلاثة مجلدات كاملة. تغطي هذه السلسلة الأخيرة الفترة الممتدة من القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين. ولكننا نغطي هنا الجزء الخاص بالقرن العشرين فحسب. ببليوغرافيا الكتاب وحدها تقع في سبع وخمسين صفحة بالتمام والكمال. أي أنها كتاب صغير بحد ذاتها! أما السير الذاتية لأبرز المفكرين، فهذه قائمة طويلة لقصص 180 مفكراً. أما من حيث الشكل والتبويب، فقد حوى الكتاب سبعة وعشرين مقالاً، وزعت على خمسة أجزاء أو فصول هي: مصائر الديمقراطية الليبرالية المتغيرة، مذاهب الماركسية ومدارسها، وهناك فصل ثالث حمل عنوان "العلوم، الحداثة والسياسة" وهو باب ناقش ضمن ما ناقش، أفكار عدد من مفكري مرحلة ما بعد الحداثة، إضافة إلى مناقشته أفكار المدرسة الأنجلو- أميركية. أما الفصل الرابع من الكتاب، فقد كرس لمناقشة الاتجاهات والحركات السياسية الجديدة مثل مدرسة اللافعل، سياسات الهوية، النسوية، وحركة الخضر وغيرها من اتجاهات وحركات جديدة. لم يغفل الكتاب التأريخ لحركة الفكر وتطوره خارج نطاق القارة الأوروبية والغرب عموما. وقد خصص لتناول هذه الأفكار غير الغربية مقالتين، اتسمت أولاهما بالتناول التاريخي العام لحركة الفكر خارج أوروبا، بينما كرست ثانيتهما لتناول الإسلام. يختتم الكتاب بتعليق عام حول استمرار الانقسام السياسي بين الاتجاهين التقليديين: اليسار واليمين.
بقي أن نشير أن عدد المشاركين في إعداد هذا السفر التاريخي العملاق، هو تسعة وعشرون باحثا تاريخيا، من شتى التخصصات التي تدرس في قسم التاريخ بجامعة كامبردج. ولهذا السبب فإنه لابد من حدوث تفاوت في قدرات ومواهب ومستويات هذا الحشد الكبير من المشاركين. وبالنتيجة من الطبيعي أيضا أن ينعكس هذا أيضاً على الكتاب نفسه. غير أن الحصيلة النهائية هي جهد علمي رصين، ما كانت جامعة كامبردج لتغامر بإصداره، ما لم يكن جديرا بأن يحمل اسمها العريق بحق، وهو كذلك. وفي الحقيقة فإن تجربة التأليف الجماعي هذه، هي سر نجاح قسم التاريخ في إصدار ما يعد من أكثر الموسوعات التاريخية مصداقية وثراء بالمعلومات المدققة الموثوقة، التي يمكن أن تعتمد عليها مؤسسات البحث العلمي وطلاب التاريخ في مختلف المستويات الجامعية وفوق الجامعية. ولكن لا شك أن هناك من برز دوره أكثر من غيره في هذا الباب أو ذاك. وهذا وجه طبيعي آخر لتجربة ضخمة وموسوعية كهذه. وذلك هو حال ميليسا لين في تناول الباب المخصص للموضوعية العلمية، وبيتر ديوز في الكتابة عن مرحلة ما بعد الحداثة. وإليهما يضاف اسم بيكو باركن في تناول الجانب المخصص للأفكار السياسية غير الغربية. وما بين الكتاب والمطبعة، هناك محررون يقع على عاتقهم إعداد مادة الكتاب في شكلها النهائي، والالتزام بالمواعيد المحددة للطبع. ولنا أن نتصور حجم العناء الذي أحاط بهذه التجربة، والصراع ما بين متطلبات الجودة المعرفية العالية، والوفاء بالالتزامات الفنية والمهنية لوظيفة الإعداد.
هناك ملاحظات يمكن للق