بدا من كلام وزير الدفاع الأميركي في الأيام القليلة الماضية أن الدهشة والمفاجأة قد أخذتا منه كل مأخذ لأن أي شخص بات في وسعه أن يوجه الانتقادات إلى الجيش الأميركي لقيامه باحتجاز المئات من الأشخاص في خليج غوانتانامو في كوبا دون مثولهم أمام أية محكمة أو خضوعهم لأية محاكمة. وقد قال دونالد رامسفيلد بسخريته وتهكمه المميزين في خطاب ألقاه في مدينة ميامي في ولاية فلوريدا إن هؤلاء الأشخاص مازالوا محتجزين هناك ليس لأنهم سرقوا سيارة أو نفذوا عملية سطو على مصرف، بل لأنهم إرهابيون ومقاتلون أعداء. فوجوب تطبيق قواعد مختلفة متخالفة أمر منطقي معهود في حكم المنطق السليم وفي آراء عموم الناس العاديين المرسلة على البديهة.
إن وزير الدفاع الأميركي يطرح بهذا حجة مقنعة إلى حد ما، باعتبار أن قوانين الحرب تعترف منذ زمن بعيد بحق احتجاز طرف ما لجنود الطرف الآخر في النزاع طوال فترة ذلك النزاع ودون توكيل أي محامين أو إجراء أية محاكمات للمحتجزين. وقد شنت منظمة "القاعدة" علينا هجومها الوحشي في 11 سبتمبر، ووافق العالم كله على قيامنا بالرد العسكري على الهجوم. وفوق ذلك ما زال هذا النزاع دائراً ولم ينته بعد.
ويصر "البنتاغون" على أن قضايا المحتجزين كانت خاضعة لمستويات عدّة من عمليات المراجعة الداخلية التي انخرط في إجرائها المسؤولون العسكريون وخبراء استخباراتيون متخصصون إضافة إلى خبراء في علم النفس السلوكي. ومن المؤكد أنه ليس هناك أحد يريد أن يتم إطلاق سراح إرهابي متفانٍ في ولائه لمنظمة "القاعدة" ليصبح حراً طليقاً.
وعلى رغم ذلك كله أصبح معسكر غوانتانامو وصمة سوداء تلطخ سمعة الولايات المتحدة، حتى بين حلفائنا الأكثر ولاءً لنا والأشد ثباتاً على المواقف. ومن المعلوم أن منظمة الصليب الأحمر الدولية هي المنظمة الوحيدة التي تتمتع بإمكانية وحرية الوصول إلى السجناء، غير أنها ابتعدت عن خط سياستها المعهود الذي يحظر عليها التعليق على ظروف السجن فبادرت بشجب المعاملة التي يلقاها السجناء في قاعدة غوانتانامو من السلطات الأميركية. وقد حملت الصحف في كل أنحاء العالم قصصاً وافتتاحيات توجّه انتقادات عنيفة إلى السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة في معسكر غوانتانامو.
ولا يطلق المشتكون من مسألة غوانتانامو مطالبة بإطلاق سراح أعضاء منظمة "القاعدة" الإرهابيين، بل يطالبون بإطلاق سراح الأبرياء المحتجزين، إذ أن الولايات المتحدة أصرّت على استخدام سلطة قررتها هي لنفسها من جانب واحد وبها تجيز لنفسها أن تعتقل أي شخص كان في أي مكان من العالم ثم تلصق به تسمية المقاتل المعادي فتحتجزه طوال الفترة التي تشاء دون إجراء أية تحقيقات أولية أو جلسة استماع أو أية مراجعة قضائية من شأنها أن تقوم بالتمييز بين البريء والعدو.
ولا تقول تلك الشكاوى إن احتجاز أسرى الحرب في نزاع معين هو أمر مخالف للقانون، بل تقول إننا بتعريفنا للنزاع بأنه حرب على كل المنظمات الإرهابية ذات النطاق العالمي قد خلعنا صفة الدوام والاستمرار على تلك الصلاحيات المذكورة وما ينتج عنها من اعتقالات.
وعلى رغم ذلك، يبقى الاعتقال دون اتهامات شيئاً غير ذي أهمية بالمقارنة مع أساليب التعذيب والاغتيالات التي استخدمتها الأمم الأخرى ضد الإرهابيين المشتبه بهم. فلماذا إذاً يتعرض معسكر غوانتانامو لهذا النطاق الواسع من الشجب والإدانة؟
إن سبب ذلك كامن في ما وراء معسكر غوانتانامو نفسه. فالمسألة أشبه بقضية قيام الشرطة بإطلاق النار على رجل أسود، فتتفجر أعمال الشغب في المدينة من جرّاء ذلك. وعلى غرار ذلك تماماً، باتت قضية المحتجزين في غوانتانامو رمزاً لمشكلة ذات نطاق أوسع بكثير.
وتتجسد تلك المشكلة الأوسع في موقف إدارة بوش من حكم وسيادة القانون. فعندما يخدم حكم القانون مصلحة هذه الإدارة، تصفق له الولايات المتحدة وتهلّل وتقوم بتصديره وتُلزم الآخرين به. وعندما لا تتوافق القوانين مع مصلحة ورغبات الإدارة، تبادر الإدارة بتجاهلها وإبطالها أو انتهاكها. فمن المعلوم أننا نحن الأميركيين قد انسحبنا من معاهدة كويوتو، ثم عارضنا إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وتجاوزنا مجلس الأمن الدولي عندما عارض إعلاننا الحرب على العراق.
ويصرّ رامسفيلد على وجوب تطبيق قوانين مختلفة على غوانتانامو. لكن العالم يرى أن الإدارة الأميركية ليست مهتمة بتطبيق القوانين هناك. فهي تضع قانون الحرب موضع التنفيذ لكنها ترفض منح المحتجزين حق الخضوع لجلسات التحقيق الأولي التي تفرضها معاهدة جنيف.
وقد قرّرت المحكمة العليا في الآونة الأخيرة، متجاوزة اعتراضات الحكومة، قبول الاضطلاع بمواجهة التحديات القانونية التي تفرضها قضايا المحتجزين في غوانتانامو ومنهم المواطن الأميركي ياسر عصام حمدي. وبعد ذلك القرار فقط أعلن البنتاغون أنه سيسمح لحمدي بالتحدث إلى محاميه، وأن الأحداث وعدداً من المحتجزين الآخرين في غوانتانامو سوف يتم إطلاق سراحهم، كما أعلن أن الجيش الأميركي سيوفر مراجعات سنوية بخصوص