ظهرت علينا فضائيات تعتمد على التصويت من قبل المشاهدين، وذلك على اتجاهات البرامج أو مواضيعها.
علمياً يعرف القائمون على أمور التحليل واستنباط النتائج من قوائم الاستبيانات أن التصويت على أي موضوع يستوجب أن يتوفر فيه عنصر التمثيل (Representation) لأفراد العينة، وكذلك عنصر الحياد الذي لا يمكن للباحث التلاعب بالنتائج مهما كانت اتجاهاتها.
وللأسف، فإن الموضة الجديدة التي نراها في بعض الفضائيات لا يتوفر فيها هذان العنصران، وبالتالي فإن النتائج تكون غير محايدة، وهذا من شأنه تضليل المشاهد وحمله على تغيير رأيه دون وجه حق.
وحجتنا في هذا الخصوص، أن عامل الهاتف والبث والحصول على الخطوط سواء كانت تلفونية أو عبر شبكة الإنترنت لا يتوفر بعدالة لجميع أفراد العينة وهم المشاهدون هنا؟ ولعلنا نُذكر هنا بما حصل إبان ترشيح "سوبر ستار العرب" حيث تدخل عامل التكنولوجيا تدخلا واضحاً في سير النتائج.
كما أن توفر تصويت لـ 500 أو 1000 مشاهد من بين عشرات الملايين الذين يشاهدون البرنامج لا يمكن أن يعتد به كمؤشر للاتجاهات.
كما أن عنصر البث اللحظي Instant أو المباشر يدخل عامل الدهشة وعدم الثبات على الرأي في عقل المشاهد، وبالتالي قد ينحاز في عملية التصويت، تماما كما يؤثر تدخل المذيع ومدى تكراره لنتائج التصويت في عملية رسوخ اتجاه معين لدى المشاهدين.
من هنا؟ نحن نعتقد أن العديد من نتائج التصويت يفتقد صفة الحياد، وبذلك نعطي المشاهد مدلولات خاطئة من الموضوع مدار البحث، وأن ترويج مثل هذه التصويتات في البرامج يضعف بل ويحقر الاتجاهات العلمية الجادة التي تعول على تحليل المضمون؟ وهو أسلوب علمي للبحث يسعى إلى وصف المحتوى الظاهر والمضمون الصريح للمادة الإعلامية المراد تحليلها من حيث الشكل والمضمون طبقا لاحتياجات التساؤلات أو الفرضيات التي يحددها الباحث. وكذلك أشكال التحليل الأخرى المعتمدة على الوصف أو الاستقراء.
إن المواطن العربي الذي درج على أرقام التصويت في الانتخابات الرئاسية.. وحفظ الرقم 99.9% كما هو رقم شرطة النجدة 999، يجد نفسه اليوم في مأزق جديد، وهو تحديد اتجاهاته المعرفية والمعلوماتية عبر التلفزيون، وكأننا نلغي عقل هذا المشاهد كما تلغيه حملات انتخابات الحزب الواحد.. ويقوم البوليس السري بجمع الأصوات أو صناديقها وفرزها في مكان أمين يضمن الـ 99.9%.
إن التلفزيون في الولايات المتحدة الأميركية يعتمد على نتائج بحوث لمعاهد معروفة مثل "جالوب" وغيره.. ولا يجوز التفريط في عملية التصويت و"تسليعها" و"تنميطها" لتكون "بهرجاً" إعلاميا، يخفف من غلواء بقاء المذيع على الشاشة لأكثر من ساعة ونصف.
كما أن الأمانة العلمية، التي ندرسّها لأبنائنا تستوجب مهنية أكثر، وعملا أصعب في تحديد اتجاهات مواضيع البرامج، ولن يتأتى الهدف الأسمى من التصويت بالصورة التي نشاهدها اليوم على بعض الفضائيات.
القضية الأساسية هنا أن إدارات بعض الفضائيات، التي لم تسمع عن التصويت أو التحليل، لا تعرف مدى خطورة استمرار مذيعيها في بث نتائج تصويت غير حقيقية، وغير علمية وغير محايدة، تماما لا تقدر مدى خطورة تغيير اتجاهات الرأي العام عبر تصويت غير علمي.
نحن ندعو الزملاء المذيعين إلى التركيز على عملية التصويت من حيث مفهومها العلمي ودقتها، وليس من حيث بهرجها الإعلامي وحاجة الشاشة إليها.. إذ ما قيمة ساعة بمليون دولار إذا كان صاحبها لا يلتزم بالوقت ولا يقدره!!
وخير ما يمكن الاستعانة به هو المعاهد المتخصصة أو الباحثون الثقات خصوصا في القضايا المتعلقة بمصير الأمة ومستقبلها، وندعو في هذا الاتجاه إلى خروج نتائج التصويتات الانتخابية عن دائرة الـ 99.9% ولنعترف بوجود بشر ومواطنين لهم آراء تختلف عن آرائنا يستوجب الموقف احترامها وإظهارها للناس من باب الحق في المواطنة.
ومن باب الاقتراب من الصدق والمصداقية، وإن لم يتوفرا في الانتخاب.
وإذا كنا لن نختلف مع مقولة الدكتور نبيل علي في كتابه "الثقافة العربية وعصر المعلومات"، حيث يقول: "ذكاء الآلة يحاصر ذكاء الإنسان من كل حدب وصوب. فالروبوت يقاسم الإنسان أعمال المهارات الدنيا. ونظم المعلومات تقاسمه أعمال المهارات الوسطى، ونظم الذكاء الاصطناعي، والنظم الخبيرة تقاسمه أعمال المهارات العليا". فأين المجال المتوفر لإبداع الإنسان وبقائه ضمن خريطة القرار في أي موضوع؟؟ يطرح البعض تخوفاً من أن قرارات الإبداع ستظل حكرا على النخبة!! وتلك مؤشرات خطيرة إذا ما عرفنا أن معظم مساحات وقاطني العالم العربي لا تصلها الكهرباء أو الهاتف.. وتكتنفها الأمية ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشارك في أي تصويت. فإذا ما أضفنا ذلك إلى الاتجاهات الجديدة والسلبية في الإعلام العربي، وكان آخرها "تسليع" العلم والتحليل، فإننا نتخوف من أن جيلنا القادم سوف يفتقد المصداقية ليس مع الآخرين، بل ومع ذاته، إذا ما استمر في التعود على أنماط تلفزيونية محددة تدعوه وتفتح شهيته إلى المزيد من الاستهلاكية، ورفض