لم يشهد النظام العربي الرسمي من قبل مثل هذه الكثافة في اللقاءات والاتصالات الجارية بين قادة دوله على مستوى القمة في الفترة الراهنة، وتحديداً منذ مطلع عام 2004. فقد شهدت هذه الفترة أكبر كم من الزيارات التي قام بها رؤساء دول وحكومات في الإطار العربي، إذ بلغ عددها 17 زيارة خلال أقل من شهر ونصف الشهر منذ زيارة الملك عبدالله عاهل الأردن إلى السعودية في 10 يناير، وحتى زيارة الرئيس المصري حسني مبارك إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في 17 و18 فبراير الجاري والتي تزامنت في يومها الأول مع زيارة رئيس الوزراء الأردني فيصل الفايز إلى الدولة نفسها كما تزامنت مع زيارة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إلى السعودية. وليس هذا التزامن إلا دليلاً على مدى كثافة التفاعلات الرسمية في الفترة الراهنة.
وقد يقال، هنا، إن العبرة ليست بالكم بل بالكيف أي بالنتائج التي تسفر عنها هذه الزيارات وما تشهده من محادثات. وهذا قول شائع في الفترة الراهنة أيضاً، إذ يزداد الميل في بعض وسائل الإعلام العربية إلى التشكيك في أداء النظام العربي بالحق والباطل وفي قدرة دوله على تحقيق ما تصبو إليه الشعوب، وتكثر محاولات تأليب الجماهير على حكوماتها بشكل يبدو أقرب إلى إثارة الأحقاد والضغائن ونشر الفوضى منه إلى النقد الجاد البناء.
والحديث عن أن العبرة بكم الزيارات والمحادثات يغفل أحد أهم مداخل تحليل أداء أي نظام إقليمي، وهو ما يسمى مدى كثافة التفاعلات بين أعضائه. فالنظام الإقليمي يكون أكثر حيوية كلما كانت تفاعلاته الرسمية كثيفة. فالكثافة، بمعنى كثرة التفاعلات أي اللقاءات والاتصالات في فترة زمنية قصيرة، تعني أن الروابط بين أعضاء النظام في ازدياد بما يؤدي إليه ذلك من ازدياد قدرتهم على تنمية العلاقات بينهم. فلا يمكن الارتقاء بالعلاقات بين الدول وحل المشكلات التي تواجهها بدون جسور مفتوحة على أعلى مستوى. واللقاءات التي تحدث والمحادثات التي تجرى خلال الزيارات على مستوى القمة هي أعلى مستوى يمكن بلوغه على صعيد مد الجسور.
وإذا كان القسم الأكبر من هذه اللقاءات والمحادثات مركزاً على قضية محددة ومن أجل تحقيق هدف معين، تصبح للكم الكبير هنا دلالة أعمق. وهذا هو الطابع المميز للتفاعلات الرسمية العربية المكثفة في الفترة الراهنة لأنها تركز على قضية إصلاح جامعة الدول العربية وتهدف إلى تطوير العمل العربي المشترك ليكون أكثر فاعلية وأفضل أداء. ولذلك تمثل كثافة التفاعلات الرسمية في الفترة الراهنة مؤشراً على أن النظام العربي يجتاز لحظة فاصلة في مساره الممتد على مدى 59 عاماً منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945. فقد أصبح تطوير هذا النظام، بما في ذلك إصلاح جامعة الدول العربية، قضية مصير بالنسبة إلى هذا النظام ودوله العربية. فقد انكشف هذا النظام خلال أزمة الخليج الثالثة عندما عجز عن منع أحد أعضائه من السير في طريق الكارثة، وليس حين امتنع عن الوقوف وراءه بخلاف ما يزعم دعاة هذا النظام.
بدا النظام العربي الرسمي ضعيفاً خلال فترة ما بين حربي الخليج الثانية والثالثة. فبعد أن نجحت دوله الرئيسية ومعها الأغلبية في التصدي للنظام العراقي في قمة القاهرة الطارئة يوم العاشر من أغسطس 1990، وبالتالي في تحرير الكويت، لم يتمكن من ممارسة ضغط فعال على نظام بغداد السابق لحمله على الالتزام بسياسات تتيح تجاوز الأزمة التي ترتبت على غزوه الكويت. وكان من نتيجة ذلك تجميد أهم آليات العمل العربي المشترك، وفي مقدمتها القمة العربية، لأكثر من خمس سنوات. وعندما بدأ تحريك هذه الآليات مجددا، كان عطب كثير قد أصابها على نحو أضعف قدرة النظام العربي على القيام بدور فعال من أجل تجنب حرب الخليج الثالثة حين لاحت نذرها عند تنصيب إدارة بوش الحالية في يناير 2001، ثم عندما باتت هذه النذر قريبة للغاية عقب أحداث 11 سبتمبر من العام نفسه.
أحدثت هذه الحرب هزة عميقة في النظام العربي، ومثلت أكبر خطر واجهه منذ تأسيسه لأن الخلاف عليها كان أكبر وأعمق من أي خلاف حدث بين أعضاء هذا النظام على مدى أكثر من نصف قرن. وكان إهدار الفرصة التاريخية التي وفرتها مبادرة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة تعبيراً عن مدى اهتراء آليات العمل في إطار النظام العربي عموماً ومؤسسة الجامعة خصوصاً. وكان هذا نذيراً بخطر داهم دفع بعض الدول العربية إلى إثارة قضية تطوير العمل المشترك وإصلاح الجامعة باعتبارها القضية الجوهرية الحاكمة، أو التي يفترض أن تكون حاكمة، ليس فقط لمصير النظام العربي ولكن أيضاً لمستقبل العرب بوجه عام.
صحيح أن هذا النظام تمكن من احتواء التداعيات السلبية للحرب عليه معتمداً في ذلك على مخزون الخبرة المتراكمة من ناحية وعلى شيوع الإحساس بالخطر لدى أعضائه جميعهم من ناحية أخرى. وكان السعي إلى تحريك مبادرات سابقة لإصلاح الجامعة العربية وتطوير العمل العربي المشترك وطرح مبادرات جديدة تعبيراً عن وجود توافق ضمني على عد