كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمولُ. بيت الشعر المأثور منذ أكثر من ألف عام يصف العلاقة بين العرب والتكنولوجيا اليوم. الدول العربية التي تُعتبر متأخرة تكنولوجياً هي في الواقع سوق هائلة للاستثمارات التكنولوجية. ثلاثة ترليونات دولار حجم الاستثمارات خلال العقدين الأخيرين في قطّاعات النفط والغاز والإنشاءات والنقل والصناعات التحويلية والمعلومات والاتصالات. وإلى جانب الموارد المادية الوفيرة في المنطقة العربية، أنتجت استثمارات كبيرة للحكومات العربية في التعليم العالي موارد بشرية كافية لبناء القوة التكنولوجية. عدد الجامعات في المنطقة العربية تضاعف نحو 22 مرة، من 12 جامعة في عام 1946 إلى 270 جامعة في العام الحالي. وعلى امتداد العشرين سنة الماضية خرّجت جامعات العالم العربي 24 ألف مهندس سنوياً. ارتفع العدد في العام الماضي إلى 28 ألف مهندس. يعادل هذا 40 في المئة من عدد المهندسين، الذين تخرجوا في الفترة نفسها من جامعات الولايات المتحدة الأميركية، التي تُعتبر القوة التكنولوجية العظمى. واجتاز العالم العربي منذ سنوات النقطة الحرجة في عدد حملة الشهادات الجامعية العربية في العلوم والهندسة والطب. ويفوق عدد طلاب الدكتوراه العرب في الخارج أقرانهم من الصين والهند. في عام 1999 كان هناك 120 ألف عربي يدرسون الدكتوراه في الخارج مقابل 106 آلاف صيني و53 ألف هندي. وعلى رغم عدم تحقيق الدول العربية قفزات مماثلة في أعمال البحث والتطوير والنشر العلمي فإنها تعدّ ضمن المجموعة المتقدمة في العالم الثالث، التي تضم البرازيل والصين والهند.
تداول هذه الأرقام والمعطيات اجتماع المبادرات المنبثقة عن تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني، الذي أشرف على وضعه المكتب العربي الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. استضافت الاجتماع، الذي عُقد الخميس الماضي في بيروت مؤسسة الحريري، وساهم فيه أكثر من 70 عالماً ومفكراً وخبيراً ناقشوا المبادرات في ثلاثة مجالات، هي تطوير التعليم، والنهوض باللغة العربية، ودعم البحث والتطوير التقاني. هنا كما في جميع الشؤون التي تتعلق بالعالم العربي اليوم يتغير التفكير عندما تتغير الوقائع. الخطوات المتواضعة، التي وضعها اجتماع بيروت ترنو إلى خطوات عملاقة على امتداد المنطقة العربية. هذا هو سبب انقطاع أنفاس المشاركين في الاجتماع، بمن فيهم كاتب هذه السطور. وانقطعت بالمعنى الحرفي أنفاس عالم الفيزياء الفلسطيني منير نايفه وهو يعترف على منبر الاجتماع بالترويض، الذي أخضع له وجيله من العلماء العرب. التوصيات المتهافتة التي قدمها العلماء حول دعم البحث العلمي والتطوير التقاني لم تكن سوى ستارة لإخفاء المشروع التاريخي للصندوق العربي للعلوم والتكنولوجيا. في فورة الثروات في السبعينيات من القرن الماضي أخفقت الدول العربية في إنشاء هذا الصندوق، وأعاد طرحه في اجتماع بيروت عالم الفيزياء الكويتي، الذي ساهم في تطويره عدنان شهاب الدين، المرشح حالياً لمنصب أمين عام منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك". هل ننسى الاقتراح لمجرد أننا فشلنا فيه قبل 40 سنة؟ طرح هذا السؤال عالم الفيزياء اللبناني خليل بيطار عميد كلية العلوم في الجامعة الأميركية في بيروت. في هذا يتصرف علماء الفيزياء بالفطرة، حسب عالم الفيزياء البريطاني رذرفورد، الذي كان يحذر طلابه "لا تقولوا جرّبنا ذلك من قبل ولم يعمل"! أنقذ الموقف إعلان ريما خلف هنيدي الأمين العام المساعد للأمم المتحدة والمدير الإقليمي العربي للبرنامج الإنمائي تبّني تمويل دراسة جدوى خاصة بإنشاء الصندوق. وبدا اجتماع بيروت كالرّد العربي على مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الذي سرّبته الإدارة الأميركية للصحف العربية في الأسبوع الماضي. فالمشروع الأميركي، الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تسويقه في قمة مجموعة الدول الثماني الكبرى في يونيو القادم استغل تقرير التنمية الإنسانية العربية لفرض حلول خارجية على المنطقة. جوبه المشروع بانتقادات حادة من قبل الأوساط العربية المفكرة، التي اعتبرته محاولة لفرض شراكة من دون شريك على المنطقة. ووصف الكاتب الرئيسي لتقرير التنمية الإنسانية الباحث المصري نادر فرجاني استشهاد المشروع الأميركي بالتقرير كاتكاء المخمور على عمود الإنارة، ليس للاستنارة بل لاتقاء السقوط.
على الضد من ذلك أنار اجتماع بيروت الصورة الجديدة المجهولة للعالم العربي. عالم جديد يواجه تحديات لا شأن لها بالتصورات القديمة حول شحة الموارد البشرية، أو قلة الاسثمارات المالية، أو المستوى المنخفض لأعمال البحث العلمي والتطوير التقني. كشفت عن ذلك ورقة العمل الخاصة بدعم البحث والتطوير التقاني. أعدّ الورقة أنطوان زحلان، وهو أستاذ فيزياء وباحث معروف على الصعيد العالمي بمؤلفاته، التي تُعتبر مصادر أساسية عن العلوم والتكنولوجيا في العالم العربي. الحلقة المفقودة في التطور التكنولوجي العربي، في تقدير زحلان تكمن في حُسن استخدام الموارد الوفيرة البشرية وال