هل يحق لسلطة سياسية ديمقراطية أن تضع خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها من قبل الأفراد أو الجماعات؟ الجواب هو نعم، هذا الحق مقبول تحت ظرفين: أولهما هو وجود تهديد حقيقي لحقوق الآخرين. وثانيهما هو وجود تهديد جدي لسلامة المجتمع أو الوطن. فيما عدا ذلك، وأيٌّاً تكن حساسية الموضوع أو اتساع الاختلاف حوله، وأياً يكن علوّ الجهة المتضايقة من طرحه، فإن مواثيق حقوق الإنسان الدولية والقيم الأخلاقية والإرث الديمقراطي لا يقرٌّون التعامل مع الحياة السياسية من خلال وضع خطوط حمراء تعسفية يعاقب من يتجاوزها.
في الوطن العربي تكثر مثل تلك الخطوط الحمراء في حياتنا السياسية بحيث تنسج في كثير من الأحيان شباكاً تحيط بالحريات الأساسية وبالممارسات الديمقراطية تؤدي إلى إضعافها وتشويهها. مثلاً، في أحد الأقطار العربية أدٌّى الحديث عن ملابسات وضوابط انتقال السلطة من رئيسه الحالي إلى من سيخلفه مستقبلاً إلى ردات فعل عنيفة. فالمتحدث والذي يعتبر من كبار مفكري البلد الموضوعيين والمستقلين غير المجاملين، جوبه بتهميش إعلامي متعمّد لكل نشاطاته وبمحاولة إقصائه عن الحياة الرسمية العامة. أما المحطة التلفزيونية الفضائية التي تجرأت وأذاعت الحديث فقد أرغمت على إجراء تعديلات في قياداتها العليا وكادت تدفع نحو الإفلاس.
إن كل ذلك جرى باسم اعتبار موضوع الخلافة السياسية من الخطوط الحمراء، لا لأن الخوض فيه مخالف للدستور أو القوانين أو مهدد لسلامة المجتمع والوطن، بل لأن لدى جهات عليا حساسية مفرطة تجاهه. إذ يذكّر بالعجز والشلل السياسي الذي ستأتي به الأيام القادمة.
في قطر آخر أرادت مجموعة من القوى السياسية الفاعلة، التي تعمل في العلن وضمن القوانين، عقد حلقة نقاش حول رؤى قانونية لها. ولكن ، وعلى رغم أن رأس الدولة قد أظهر تقبلاً ملفتاً للحديث في الموضوع واعتبر ذلك جزءاً من الحريات العامة، وعلى رغم أيضاً أن الموضوع قد نوقش علناً وفوق كل منبر عبر فترة طويلة، إلاً أن بعضاً من الاختلافات حول التفاصيل الإجرائية قلبت الموضوع برمّته إلى واحد من الخطوط الحمراء، فكانت النتيجة قيام حرب الحصار والحملات الإعلامية القاسية وتشويه النوايا والأهداف التي أدّت بدورها إلى ضياع الفرصة لمناقشة هادئة رزينة للأوراق الرئيسية التي يرقى بعضها إلى مستويات عالية من الموضوعية والدقة. كما ضاعت فرصة للوصول إلى أرض مجتمعية مشتركة.
في الحالة الأولى نُحرت حرية الرأي وحق المواطن في المناقشة العلنية، وفي الحالة الثانية نُحر التجمع السلمي لإبداء الرأي وممارسة المواطنة المسؤولة. وفي الحالتين قدمت هيبة الدولة وعدم خدش صورتها الخارجية على متطلبات الحرية. ويبقى سؤال وهو: إلى متى سيبقى مرض الشك والريبة متأصلاً في المجتمع العربي بحيث يدفع الدولة العربية إلى اعتبار أي اختلاف في الرأي معها مسألة تحدّ وقضية حياة وموت، وبحيث ينتهي ذلك الاختلاف الى أن يصبح إما معركة دونكيشوتية ضد طواحين هواء وهمية أو ينتهي بكسر عظام المجتمع المدني؟ بصراحة، هل العيش في أوطان تلك خياراتها أمر معقول؟