هناك نقص رابع كان يُفترض أن يضيفه تقريرا التنمية الإنسانية الأول والثاني (2001 و2002) إلى النواقص الثلاثة الأساسية التي أعتبرها التقريران أسباب تردي أوضاع التنمية الإنسانية في المنطقة العربية: النقص في الحرية, والنقص في إمتلاك المعرفة, والنقص في تمكين المرأة. أما النقص الرابع المهم والناقص فيهما والذي أضر غيابه بالجهد الكبير المبذول في التقريرين, وأساء إلى الخلاصات والنتائج التي وصلا إليها, فهو النقص في إمتلاك السيادة على القرار الوطني, أي النقص الحقيقي في الإستقلال الكامل. هذا النقص كان من الواجب إضافته لأنه يعطي عامل الهيمنة الخارجي الأهمية التي يستحق, وفي نفس الوقت لا يلغي أهمية النواقص الداخلية. هذه الإضافة الملحة, والتي لم يفت وقتها بعد, تبعد التقريرين عن بعض سمات السطحية الميكانيكية التي وسمت جانبا من النتائج, حيث يظهر وكأن التعامل مع النواقص الثلاثة وحلها سوف يكون قمينا بإحلال التنمية والتقدم في المنطقة – مع تحييد غير حقيقي وغير علمي لأثر الخارج. غياب ذلك النقص عن التقريرين أتاح فعلاً فرصا كبيرة لكثير من صيادي الماء العكر للقفز وبراحة نحو تبرئة العوامل الخارجية من أية مسؤولية لما لحق بالمنطقة من تخلف. كاتب هذه السطور ينطلق من أرضية مؤيدة لنهج النقد الذاتي, أي نهج تقريري التنمية, وضرورة إمتلاك الشجاعة للقول بأننا نتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية تخلفنا التاريخي, الذي أتاح لكل طامع في مقدرات وثروات المنطقة أن يأتي بجيشه وأساطيله. لكن هذا لا يمنع من القول بأن العامل الخارجي, عموما, وفي الحالة العربية خصوصاً, لم يكن أبدا "عاملاً من جملة عوامل", أوعنصرا هامشيا في تشكل وجه المنطقة وجغرافيتها السياسية والإجتماعية. لهذا فإن تقريري التنمية الإنسانية قصرا فعلا في تهميش معالجة هذا العامل, هذا مع ضرورة الإشارة إلى التقرير الثاني أستدرك تقصير التقرير الأول, وأعاد الإعتبار لمسألة الهيمنة الغربية وما ينتج عنها من تحكم مفروض على المنطقة. لكن إستدراكات التقرير الثاني جاءت متأخرة جداً, وبعد أن وقع الخراب. إلى ذلك, فإن عدم منهجة وتأطير العامل الخارجي بالشكل الذي يستحقه, أي إعتبار وطأته الثقيلة في المنطقة تمثل إنتقاصا كبيرا في منسوب السيادة الوطنية, وإستقلالية البلدان العربية, لم يرتق إلى التشخيص المطلوب. أي لم يتم وصفه "بالنقص الرابع", بحيث تتساوى أهمية هذا العامل مع النواقص الثلاثة التي يعتبرها التقريران النواقص الأساسية. ولذلك بدا وكأن التقريرين أرادا الإنتقام من الأدبيات والتحليلات التي أحالت كل المعضلات التاريخية التي يعاني منها العرب إلى الخارج والهيمنة الغربية على المنطقة, فقلبا كل الإحالة تلك بالإتجاه المعاكس. هذا مع أن الحقيقة تقع في الوسط, فلا الداخل معفى, ولا الخارج مبرأ. وأي تطرف في واحد من الإتجاهين يقود ليس فقط إلى شطط في التحليل, بل والأهم من شلل في الإرادة إزاء سؤال ما العمل إذن, ويأس في ابتكار أي مشروع للتقدم والإنفكاك من التخلف.
لكن علينا أن لا نقع أسرى أزمة تحليلية إبستمولوجية خيارية ونحشر مسألة الديمقراطية في العالم العربي بمنظور تقرير التنمية والإنسانية وما يقوله فقط. فأي مشروع للديمقراطية في المنطقة غير محصور بالنواقص الثلاثة التي أشار إليها التقرير, ولا يشترط أن يبتدىء بها, أو حتى بالنقص الرابع (المعني بالمعامل الخارجي) غير المذكور, رغم أنها جميعاً متداخلة ومرتبطة بشكل بالغ العضوية والإعتمادية المتبادلة. كما أن الديمقراطية ليست وصفة سحرية ما أن يتم الشروع في تطبيقها حتى تبدأ المعضلات الكبرى التي تواجهنا بالتساقط واحدة تلو الأخرى. فهي ليست سوى مدخل إجرائي للتعامل مع تلك المعضلات بطريقة متحررة من أية ضوابط ومحددات غير موضوعية, ومنفلتة من ربقة الإستبداد الذي يفرض طريقا أحاديا لمواجهة تلك المعضلات هذا إن وافق على إعتبارها كذلك. وعملية الإنتقال نحو الديمقراطية, الدمقرطة, هي أشبه بالعملية القيصرية شديدة الحساسية, والتي إن لم يتم التعامل معها بدقة ومهارة وخطوات محسوبة فإنها قد تودي بالأم والجنين معاً, أي بتماسك المجمتع واستقراره النسبيين. وعليه فإن الدمقرطة, وحتى في حال كونها ابنا شرعيا للمنطقة, ونتاج تطور طبيعي, فهو عملية مركبة ولا يمكن أن تكون ميكانيكية وذات آلية خطية, بل صيرورة بطيئة وفي غاية الدقة. أما عندما تكون لقيطا غير شرعي, ويريد لها الآخرون أن تُتبنى عنوة في المنطقة فإن كل ذلك التعقيد لا يني يتفاقم.
جانب من ذلك التعقيد, والمتعلق بأثر ودور العامل الخارجي في إحداث, وتشويه الدمقرطة, يمكن أن يُرى من زاوية لها وثيق صلة بالعلاقة بين الديمقراطية والعلمانية. فهذه العلاقة التي كان يُنظر إليها بإفتراض أنها تحصيل حاصل, وشيء بدهي, أثبت التطبيق العملي والتاريخي هشاشتها. فكان أن نشأت ديمقراطيات في العالم غير ليبرالية وغير علمانية, أي لم تتحقق فيها قيم التساوي المطلق بين الأفراد وسيادة القانون وحماية الحريات الفردية و