سألني زميلي زكي ما هو التعصب؟ احترت كيف أضغط التعريف في أقل قدر ممكن من الكلمات؟ وأنا أعلم لعبة اللغة كما يقول الفيلسوف فيتجنشتاين. فليس هناك من شيء أدعى للمراوغة والتملص مثل الكلمات. وإن أردت أن لا تفهم شيئاً فاستمع لأقوال السياسيين؟ قلت له: التعصب هو توهم الإنسان أنه على الحق المطلق وقطع الطريق على كل مراجعة والتمسك بالموقف ولو ثبت له بالحجة أنه مخطىء؟ ويُعرَّف الدوغمائي أنه ذلك الشخص الذي تظهر الظروف الموضوعية أنه يجب أن يغير موقفه فلا يغيره. قال: لا مانع عندي أن يختلف معي الآخر وله الحق أن يمضي في طريقه كيف يشاء فهذا شأنه وهي من حرية الفكر ولكنه في نظري في الضلال المبين. قلت له: إنها خطوة جيدة ولكن ألا يخطر في بالك أنه يفكر كما تفكر فيعتقد بالمقابل أنك أنت في الضلال المبين؟ وألا ترى أن هذا اللون من التفكير يقطع الطريق على أي حوار طالما رأى كل منكما الآخر شيطانا رجيما؟ قال: لا.. لا .. إنك هكذا تفكر على نحو خطير. قلت له لا يدور الموضوع حول أخطر وأقل خطرا ولكن صحيح وخطأ. قال ولكنك متعصب لرأيك هكذا؟ قلت له: إنه كلام جميل ويجب على من يحارب التعصب أن يكون أول المتحررين. والفرق أو الكاشف بين المتعصب والمنفتح عقليا هو قدرته على الحوار وافتراض (احتمالية) أن يكون مخطئاً وفك هذا القفل يأتي بالجدل؛ فالأفكار تتبلور وتتوضح وتصحح من خلال الجدل بالتي هي أحسن. وينقل عن الشافعي قوله إنه كان يعامل المختلفين في الفكر بقاعدة ذهبية "إنني على حق ولكن يحتمل أن أكون مخطئا وأنت على باطل ولكن يحتمل أن تكون على حق" وهذا اللون من التفكير يفتح باب الحوار لتبين الحق من الباطل. طالما افترض كل طرف أنه نسبي وليس مطلقا. وأنه بشر يخطىء ويصيب.
وينقل أيضا عن الشافعي وهو يصف جدله مع الجاهلين هكذا: "ما جادلت عالما إلا غلبته وما جادلني جاهل إلا غلبني" لأن العاقل يخفض صوته ويركز تفكيره ويصغي والجاهل يلوح بقبضته ويرتفع صوته ويظهر الزبد على شدقيه انفعالا ويدعي بالهلاك على العلمانيين المارقين. قلت له إذا حاورت أحداً وثبت لك خطأ أفكارك هل أنت مستعد للتراجع؟ قال: لا ؟ قلت له: فهذا هو التعصب؟ قال: ولكن قد يكون ألحن في حجته؟ قلت له: لا حرج ولكن لو أنك تريثت وأتيت بخمس حجج جديدة فأدلى لك بخمس حجج مضادة تفند ما ذهبت إليه هل أنت مستعد لتبديل رأيك؟ تضايق صديقي وقال: ولكن هذا ينطبق على القضايا البسيطة والخلافات في الطب وليس في القضايا الخطيرة العقائدية؟ قلت له هذا ما قاله عالم النفس هادفيلد إن أعظم لحظات تحرر الإنسان وسعادة تبديل دينه والتحرر من عقدة نفسية وفي أوروبا يبدل الناس عقائدهم عندما يظهر خطؤها؟ تابعت وأنا أشعر أنه بات محاصرا أكثر. والرجل يجادلني للمرة الأولى وتذكرت سقراط ونقض المسلمات. أعدت الفكرة: لكن لو نقلنا هذه للأفكار هل عندك استعداد أن تترك آراءك عندما يتبين لك خطؤها؟ قال قد يكون هو مدرب على إظهار حججه أكثر مني فيضحك علي ويقودني إلى الضلال؟ قلت له هب أنك أحضرت رجلا حجة متأكد من علمه إلى حلبة الجدل فهزم بالضربة القاضية بعد الجولة الخامسة هل عندك استعداد للتخلي عن الرأي الذي ثبت خطؤه. احتار الرجل وصدم. قلت له إن ملكة سبأ حينما قابلت سليمان تركت دينها وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين. وعلماء النفس يقولون إن أعظم اللحظات النفسية عند الإنسان انعتاقه من دين الآباء وتغيير آرائه عندما تتبين له الحجة البينة كما فعل سحرة فرعون. تابعت: إن القرآن نعى على الجاهلين أنهم كانوا يمشون خلف آبائهم بدون عقل فقال أولو أكان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. والقرآن يصف الكفر أنها عملية إغلاق صمامات التفكير "صم بكم عمي فهم لا يفقهون" وكما يقول (نيتشه) أصل نفسك حربا لا هوادة فيها وعندما يتبين لك الحق فاتبعه ولو ضد نفسك فهذا هو الجهاد الأكبر. وهكذا فالتعصب للرأي هو زيادة التمسك طردا مع بيان فساده عكسا. والقرآن أسس الإيمان على الفكر والتأمل فقال إن في ذلك لآيات لأولي النهى. وهل في ذلك قسم لذي حجر. وإن في ذلك لآيات لأولي الألباب. وعندما جادل لوط قومه قال أليس منكم رجل رشيد؟ ولكننا منذ زمن بعيد أضعنا الرشد والعقل والنهى والحجر.