اليوم يقود الباحث الفلكي أنتوني شينكل سيارته الاقتصادية الصغيرة SUV صاعدا بها المرتفع الأخير من هذه القمة البركانية الخامدة البالغ ارتفاعها 13600 قدم فوق مستوى سطح البحر. ما الذي يذهب به إلى هناك يا ترى؟ إنها العاصمة الدولية الشهيرة لعلم الفلك, نحن هنا في قمة جبل مانواكي في جزر هاواي. ويفخر أنتوني شينكل مدير هذا المشروع, أيما فخر بتلك الهوائيات الثمانية التي تناثرت كيفما اتفق, فوق تلك القمة, كما لو كانت مجموعة فوضوية مبعثرة من أطباق الالتقاط الفضائي التلفزيوني. صحيح أن من يشاهد تلك الهوائيات لأول مرة, يعتريه الشعور بأنها وضعت هناك على نحو فوضوي وكيفما اتفق كما سبق القول. إلا أنها في الواقع ترتبط مع بعضها البعض أشد الارتباط, وتعمل في تناسق هندسي دقيق وفريد مع بعضها. وإلا فكيف لها - الهوائيات - أن تسبر أغوار أكثر المناطق بعدا وخفاء في كوكبنا؟ وللعلم فإن هذا امتيازا لا يحظى به إلا الراسخون في علم الفلك, ممن يستخدمون المناظيرالسمعية - البصرية معا.
عبر هذه الكوة أو النافذة إن شئت, يأمل شينكل وزملاؤه من الباحثين في مجال علم الفلك, في النفاذ وإلقاء نظرة فاحصة على بعض المناطق التي تعد الأكثر بعدا وبرودة وحداثة وغرابة في كوكبنا. طبيعي أن يربط الفريق هذا الأمل بإتاحة المعلومات التي يتوصل لها, وتقديمها للأوساط العلمية ولعامة الجمهور, بأدق تفاصيل ممكنة وغير مسبوقة في الوقت ذاته. يجدر بالذكر أن الهوائيات التي تمت الإشارة لها فيما سبق في صدر هذا المقال, تعرف اختصارا في اللغة الإنجليزية باسم SMA وهي عبارة عن تشكيلة متنوعة من الهوائيات الدقيقة التي تعمل على ذبذبات طولها أقل من جزئية ضئيلة من المليمتر.
فنيا, تعمل هذه التشكيلة من الهوائيات على استقبال إشارات صوتية مركبة. أما طول الموجات التي تعمل عليها, فمن المتوقع لها أن تمكن الباحثين والعلماء في المجال, من استقصاء وسبر غير مسبوقين, درب اللبانة النفاذ عبر غازاتها وغبارها الكثيفين, إلى ذلك العالم الساحر الجديد, العامر بميلاد آلاف النجوم والظواهر التي تخلقت للتو, في منظومتنا الشمسية. وبموجب هذه التكنولوجيا السمعية- البصرية, ستتاح للباحثين والعلماء فرصة تعقب ورصد هذه النجوم والظواهر الفلكية الجديدة في مراحل تكونها وتشكلها الأولى. وبحكم قدرة هذه التشكيلة المتنوعة من الهوائيات على التقاط وجمع المعلومات الخاصة بدرجات الضغط والحرارة الكونيتين, فإنه يتوقع لها أن تكون عونا كبيرا للعلماء في فك لغز ذلك التكوين الكيميائي المعقد, الذي تخبئه وراءها تلك السحب الكثيفة من الجزيئات الكيميائية. وللمفاجأة, فإن في وسع هذه السحب تشكيل أنواع من الجزيئات العضوية التي عادة ما تشير إلى وجود شكل ممكن من أشكال الحياة فيها! ليس ذلك فحسب, بل يتوقع لهذه التشكيلة من الهوائيات أن تساعد في إلقاء ضوء على بعض المجرات العملاقة التي تحتجب رؤيتها بسبب ما تحيط بها من طبقات غازات وغبار كوني هائلة. فمع هذه السحب الكثيفة, ظلت هذه المجرات بعيدة عن الاستقصاء سواء بواسطة الأجهزة البصرية, أم بواسطة الأشعة ما دون الحمراء. بالقدر ذاته, يتوقع للتشكيلة أن تكون ذات فائدة قصوى في الوصول إلى مسافات خرافية البعد, تلقي فيها امتدادات الكون الشاسعة أضواءها أو موجاتها فوق البنفسجية, عبر المجرة, في شكل موجات تقل أطوالها عن المليمتر على سطح الأرض.
تسمية أخرى لهذه التشكيلة هي" الهوائية السوبر" كناية عن الهارمونية في أدائها, وقدرتها على جمع عملياتها جميعا وتوحيدها في منظومة واحدة. ولما كانت هذه الخاصية تتيح صفة الجماعية في عمل الهوائيات الثمانية مجتمعة وكأنها هوائية واحدة عملاقة- وهذا هو المقصود من تسمية
" الهوائية السوبر"- فإنها تؤدي دون أدنى شك لرفع مستوى المراقبة الفلكية. والذي نتوقعه هو أن تتمكن التشكيلة من التمييز بين ما قد يبدو للمنظار الفلكي الواحد, على أنه نجم وحيد من النجوم القديمة الموجودة أصلا في منظومتنا الشمسية, في حين أنه في الواقع, ظاهرة كونية جديدة تمام الجدة. بل إن الذي يراه المنظار الفلكي التقليدي على أنه نجم واحد, هو في الواقع أكثر من حيث العدد, وأحدث من حيث التكوين. تعليقا على عمل هذه التشكيلة قال انتوني شينكل إن مجرد التوغل في سحب البرد والغبار, ربما يبدو أمرا مملا بحد ذاته في نظر البعض. غير أنه أمر شيق ومثير جدا للاهتمام, سيما وأن النجوم والكواكب الجديدة التي تولد في منظومتنا الشمسية, إنما تولد في هذه المناطق الباردة بالذات. وأكد شينكل أن هذه الحقيقة تصدق سواء على تخلق الظواهر الكونية في عصورها الباكرة, أم ما استجد فيها من ظواهر حديثة. إذا فإن التشويق العلمي الفلكي كله يكمن حيث تكون البرودة, كما تكون الإثارة أيضا حيث يكون الظلام!
إلى ذلك يضيف زملاؤه الباحثون في المجال قائلين إن لهذه التشكيلة من الهوائيات فوائد أخرى تقع خارج دائرة أهميتها العلمية المباشرة. ذلك أنها تحتفظ لها بنوع من الرمزية العلمية في مجال مثل ع