"اللهم اجعله خيرا ".. هذا ما نقوله عادة عندما نحلم بشيء غير متوقع ، كأن ترى في المنام الرئيس الأميركي جورج بوش يوجه إنذارا نهائيا لإسرائيل بأن تنسحب من الضفة وغزة تماما، وتقبل بمبادرة الأمير عبد الله وإلا سوف تتحمل عواقب وخيمة، أو ترى في المنام أحد أصحاب الفضيلة من القضاة حضر إلى مكتبه في الموعد المحدد ولم ينصرف حتى بت في أكثر من قضية ولم يؤخرها لشهرين أو ثلاثة.
وكان هذا بالفعل ما قلته الأسبوع الماضي بينما كنت في طريقي إلى مطار ناريتا، بعد أن حضرت مؤتمرا في طوكيو دعت له أكبر مؤسسة دراسات يابانية ( جابان فاونديشن ) عنوانه " اليابان والعالم العربي: نحو مستقبل مشترك "، لم تكن مفاجأة هذه العنوان " المتفائل " الذي يضم عالمنا العربي البائس إلى عالم اليابان السعيد قد زالت عني بعد، وإذا بي أقرأ في صحيفة يابانية ( بالإنجليزية طبعا) عن مؤتمر آخر نظمته في نفس الوقت صحيفة نيهون كيازي شيمبون، عن اليابان والشرق والأوسط، فما الذي يحصل؟ هل قرر اليابانيون أخيرا التخلي عن برنامجهم القديم الذي رسم علاقتهم مع العالم العربي لعقود طويلة " النفط فقط مقابل سوني وتويوتا "؟
لقد اختطت الحكومات اليابانية المتعاقبة سياسة باردة في العلاقات مع العالم العربي اقتصرت على المصالح التجارية فقط، والنأي بها عن حميمية الاهتمام بالأوضاع العربية الداخلية، أو التورط في متاهة قضية فلسطين، والتي لم تدخلها إلا في العقد الأخير وبالتحديد بعد اتفاقية أوسلو وفي دورها التقليدي كممول. فقدمت للفلسطينيين مساعدات زادت على 800 مليون دولار يُذكر بها اليابانيون المسؤولين العرب كلما التقوا بهم، ولكنها مؤخرا عينت مبعوثا خاصا للشرق الأوسط أسوة بالأوربيين، ولكنه أكثر تحفظا من المبعوث والذي يبدي أحيانا تفهما أكثر للمعاناة الفلسطينية، فلابد أن نتذكر دوما أن اليابانيين يقدمون مصالحهم وعلاقاتهم الحميمة مع الولايات المتحدة على ما عداها.
في المؤتمر الذي حضرته كان الحديث حول الديمقراطية والتنمية والثقافة في العالم العربي وسبل تنميتها، وهي نفس المواضيع التي تبحث في مؤتمرات مماثلة في الولايات المتحدة وأووربا، وما أكثرها هذه الأيام, فلقد حضرت شخصيا مؤتمرين خلال الستة أسابيع الأخيرة وثالث الشهر القادم وفوجئت بمقدار الاهتمام والمعرفة بالأوضاع العربية بل حتى بأوضاع بعض الدول، خاصة المملكة العربية السعودية، ففي لقاء حضرته مؤخرا استمعت بإعجاب إلى تحليل دقيق أعده باحث فرنسي عن الاتجاهات الإسلامية في المملكة بلغ في تعمقه بالتفاصيل أن تحدث الباحث عن الاختلافات بين تيار الصحوة التي يمثلها المشايخ سلمان العودة وسفر الحوالي، والتيار الإسلامي التجديدي الذي يمثله المشايخ عبد العزيز القاسم ومنصور النقيدان ومحسن العواجي.
إن الاهتمام الأميركي والأوروبي بالإصلاح في العالم العربي معروف ويمكن تفهم أسبابه أيضا، فالأميركيون يستعدون لإطلاق مبادرة مفصلة لشرق أوسط جديد أثارت قلق الحكومات العربية ولما يطلعوا عليها بعد، فسبقهم الأوروبيون المتنافسون معهم إلى إعداد مبادرة سربت قصدا للصحافة العربية، كما أن موضوع الإصلاحات السياسية دخلت أجندة لقاءات الرئيس الأميركي بالقادة العرب وتجلى ذلك في لقاء الرئيس بوش بالرئيس التونسي زين العابدين بن على الثلاثاء الماضي، وبدا عدم الارتياح التونسي لذلك عندما تجاهلت الصحف التونسية ذلك الجزء من حديث بوش، وهو عدم ارتياح سيتكرر مع كل زعيم عربي يزور واشنطن التي ما من إلى زيارتها مفر.
أما الاهتمام الياباني فهو الغريب، وغرابته أنه يأتي على غير عادة اليابانيين ورغبتهم. وعبر عن ذلك السفير السوداني في طوكيو الذي يعرف اليابان جيدا ويتحدث لغتهم بطلاقة ذلك فهو مقيم بين ظهرانيهم منذ 40 عاما, فقال لي على هامش المؤتمر إنه لم ير اهتماما من اليابانيين بالأوضاع العربية الداخلية مثلما يرى هذه الأيام، فما هو سر هذا الاهتمام ؟
هل هي توصية من حلفائهم الأميركيين؟ أم أن الجميع يعلم أن هناك شيئا ما يعد لعالمنا العربي ونحن كالزوج المخدوع آخر من يعلم.
عودة إلى المؤتمر حيث اتفق الباحثون العرب واليابانيون إن فرصة اليابانيين في المشاركة في النهضة العربية القادمة ( تعبير مهذب للتدخل ) أفضل من الأوروبيين والأميركيين فهم لا يحملون معهم عبء الماضي الاستعماري كالأوروبيين، وجروح الحاضر المؤلمة بالمناصرة العمياء لإسرائيل كالأميركيين، كما أن العلاقة اليابانية العربية كانت سلسة ومفيدة للطرفين وإن اقتصرت على الجانب التجاري فقط، وخلوها من التشنجات السياسية كفيل بتطويرها إلى آفاق ثقافية وتنموية وتبادل خبرات في مجال الديمقراطية، يدعمها في ذلك حقيقة أن اليابان دولة تنتمي لحضارة شرقية غير مسيحية، ومع ذلك تبنت النظام الغربي السياسي والاقتصادي مع الحفاظ على مورثها الحضاري والديني، وإن كنا نبالغ نحن العرب في هذا الزعم لإرضاء بعض من غرورنا وأنفتنا من اقتباس الحضارة الغربية "بخيرها وشرها " كما دعانا لذلك طه حسي