لا أدري لماذا ارتسمت في رأسي مقارنة آنية بين أمرين متباعدين: "جدار برلين" الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، والانتخابات الإيرانية، لا تكافؤ بين القضيتين، ولا عناصر مشتركة، لكن ثمة آليات عمل متلبسة بـ"الشرعية" تتحكم هنا وهناك. في إيران يمكنك أن تترشح للانتخابات. يمكنك إذا كنت من الاتجاه الإصلاحي، ويبدو أن لك حظوظاً للفوز، فإن مجلس "صيانة" الدستور سيرفض الترشيح. إذاً فهي انتخابات تحت سيطرة كاملة، محكمة، إلى حد إلغاء الخصم المتنافس ووضعه خارج السباق. في لاهاي يستطيع الفلسطينيون أن يستحثوا القانون الدولي وأن يترافعوا في "عدم شرعية" الجدار، لكن المحكمة لا تستطيع أن تعطي سوى رأي استشاري. وقد يكون هذا الرأي واضحاً بمعنى أن الجدار باطل وغير قانوني. لكن المحكمة ممنوعة من أن تفتي بوقف بنائه على رغم كل الأضرار الإنسانية والاقتصادية والسياسية التي سيتسبب بها والتي ستصبح عميقة ومستديمة. وحتى لو نقل الفلسطينيون الرأي الاستشاري للمحكمة إلى مجلس الأمن الدولي فإنه لن يأخذ به. هذا هو نمط العدالة الذي يعتنقه جميع أولئك الذين ينادون بـ"الإصلاح" في دول "الشرق الأوسط الكبير".
الولايات المتحدة اعتبرت الجدار "خطأ"، بلسان الرئيس جورج بوش، واعترضت عليه ثم سكتت سكوت القبول بالأمر الواقع، ثم باتت تبرره لأن إسرائيل وضعته في سياق "مكافحة الإرهاب"، وإذا اشتكى الفلسطينيون ذلك "الخطأ" إلى محكمة لاهاي فإن واشنطن عارضت الشكوى. دول الاتحاد الأوروبي رفضت الجدار واعتبرته غير قانوني وغير شرعي، وكما لو أنها أرادت أن تكون منطقية عارضت بدورها الذهاب إلى لاهاي. ما العمل إذاً، ما البديل؟ من الواضح أن الأوروبيين يقبلون الجدار ضمنياً لأن أميركا تقبله طبعاً، هناك ذريعة أن اللجوء إلى المحكمة يعطل التسوية السياسية. من يخبر الأميركيين والأوروبيين أنها معطلة بفضلهم وبفضل عجزهم لا بفعل "الإرهاب".
إسرائيل فضلت أن تترافع خارج قاعة المحكمة، في الإعلام وفي الشارع، وقاطعت المواجهة معه مع القضاة لأن الخسارة محققة لكن فاعلية القانون, مصادرة مسبقاً.إذاً فكل ما يمكن أن يُكسب هو خارج المحكمة، وخارج القانون, إسرائيل تقاطع لأنها لا تريد أن تشذ عن تاريخ ازدرائها للشرعية الدولية، فالدعم الأميركي وضع هذه الدولة فوق كل شرعية وكل قانون وكل محكمة. إذاً فكل ما يُكسب أيضاً خارج تلك الشرعية، في مواصلة سرقة الأرض، بالاستيطان أو بالجدار. والدليل أن ذريعة "مكافحة الإرهاب" بدت كافية لسرقة 850 كيلومتراً مربعاً من الضفة الغربية المحتلة ولتنكيد نحو 180 ألف فلسطيني في حياتهم اليومية بل إنها أقنعت الأميركيين والأوروبيين بحسنات 122 بلدة ومدينة ونحو 300 ألف فلسطيني في معازل هي في الواقع سجون كبيرة. كما أن العدالة الدولية غضت النظر عن تدمير أراض زراعية وممتلكات تسهيلاً لبناء الجدار، إذا لم يكن هذا هو الإرهاب فما عساه أن يكون؟
ينبغي الاعتراف بأن القضية الفلسطينية تأخرت نصف قرن للوصول إلى لاهاي. والأكيد أن العرب ارتكبوا التقصير الأكبر في المساومات الكثيرة التي ارتضوها من دون أي مقابل، ولم تكن هناك أية حكمة أصلاً في قبولها. إنهم يشهرون القرارات الدولية في كل مناسبة، لكنهم مثقلون بتراث طويل من عدم فهم قوة القانون ومغزى المعاهدات الدولية. لذا تصرفت إسرائيل على أساس أن العرب قوم لا داعي لمعاملتهم بالقانون بل باحتقار كل قانون باستثناء قانون القوة. قبل سنة فشلت محاولة داخل منظمة الأمم المتحدة لتفعيل مسألة انطباق اتفاق جنيف على الأراضي الفلسطينية. تراجع العرب حينها لقاء "صفقة" واهمة بأن "حلاً"، دولياً يوشك أن يطرح، وكان الفلسطينيون أول الموافقين على تلك الصفقة، لم يكن هناك حل وإنما كانت هناك خدعة حاكتها إسرائيل وتولى الأميركيون والأوروبيون تنفيذها، فهم لا يتعاملون واقعياً وقانونياً مع إسرائيل على أنها قوة احتلال ولذا يعفونها من المسؤوليات إزاء السكان الواقعين تحت احتلالها ولو لم تكن متفلتة من أية مسؤولية حيال الأرض والبشر لما استطاعت حتى أن تفكر في بناء الجدار.
عندما تكون القضايا كبيرة ومثقلة بالتفاصيل، لابد أن تميل أية محكمة إلى اختزال الكثير من الوقائع والحقائق لتتمكن من الخروج برأي بسيط وواضح، خصوصاً إذا كان استشارياً. ومهما بدا هذا الرأي لمصلحة الجانب الفلسطيني والعربي فإن أهميته وقيمته تكمنان تحديداً في عدم الاكتفاء به والانتقال إلى الخطوة التالية، لا لوقف البناء ولا لتصحيح مساره فحسب وإنما لإعادة الاعتبار إلى (قانونية) القضية شعباً وأرضاً ومسؤولية المجتمع الدولي تجاههما.