شهدت إيران يوم الجمعة الماضي إجراء انتخابات تشريعية، سجلت أكثر من مؤشر على النقطة التي يقف عندها قطار التحولات في هذا البلد، وعلى مستقبل التجاذب المزمن القائم بين جناحي السلطة، من محافظين وإصلاحيين. كما عكست انتخابات الجمعة تلك مدى جدية المأزق الذي يواجه التجربة الديمقراطية في الجمهورية الإسلامية عموماً، بعد تفاقم أسباب الصراع بين معسكرين يقدم كل منهما رؤاه لمستقبل الثورة والدولة في إيران.
وليست هذه أول انتخابات تجري في أجواء من الشدّ والجذب، والتنافس المحموم بين الفاعلين السياسيين في طهران، ولكنها دون شك، أول انتخابات تشهد مثل هذه الاستقالة السياسية الجماعية. والمقصود هنا ليس فقط استقالة أعداد كبيرة من المترشحين، بل "إقالة" بعضهم بحكم رفض ترشيحهم أصلاً، وكذلك استقالة الشارع الإيراني العريض الذي يبدو أنه يزداد ميلاً إلى نفض يديه من العملية برمتها. فقد كانت نسبة الإقبال الضعيف على صناديق الاقتراع دليلاً آخر على أن أعداداً متزايدة من الإيرانيين ما عادت تجد في نفسها من الأسباب ما يكفي للذهاب إلى مراكز التصويت أصلاً. بمعنى أن عامة الشعب الإيراني اقتنعت بأن المعركة الدائرة فقدت كثيراً من بعدها الديمقراطي الذي دفع الناس إلى الإقبال على التصويت بنسبة 76.35 في انتخابات سنة 2000، وهي النسبة التي تراجعت في انتخابات العام الماضي 2003 إلى مجرد 49.17 ما يعني أن انحدار منحنى خط الإقبال على المشاركة في حالة تدنّ حقيقية ومستمرة.
لماذا هذه "الاستقالة"؟ ما يسجله المراقبون للشأن الإيراني من مصاعب تواجه الديمقراطية الإيرانية، يستبعد أصلاً طرح مثل هذا السؤال. فالتحديات الاقتصادية الداخلية الجسيمة، وازدياد نسبة الشرائح الشابة التي لم تشهد مرحلة ما قبل الثورة ضمن الهرم السكاني الإيراني العام، والاختناقات الإقليمية التي تلقي بظلالها بقوة على طهران، مدعومة بالضغوط الدولية المتعاظمة، ثم اتساع الهوة بين السلطتين الدينية والمدنية، وعدم الحسم في النفوذ والصلاحيات الدستورية بين رجال الدين وأنصار الرئيس خاتمي، كل ذلك يعيد تدوير السؤال السابق ليصبح: ولماذا يذهب الإيرانيون إلى صناديق الاقتراع أصلاً ما دام كل شيء قد حسم سلفاً؟
إن ما تواجهه إيران الآن، في تقديري، هو الثمن المترتب على تأجيل الأسئلة، وعدم المبادرة بإيجاد الإجابات المناسبة عليها. الإجابات التي تجعل الناس، يشعرون بأنهم ما زالوا معنيين بالشأن العام في بلادهم. ومن ضمن أسئلة إيران التي لم يجب عليها الزمن منذ وفاة مؤسس الثورة الخميني، ذلك المتعلق بالشبكة المتداخلة والمعقدة من أجهزة الحكم والتشريع ابتداء من المرشد الأعلى ومجلس صيانة الدستور، والجهاز القضائي، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وانتهاء برئيس الجمهورية والبرلمان، وما بين هذه الجهات والتسميات من أجهزة أخرى لا أول لها ولا آخر، يتفنن المشرع في تحديد نقاط الفصل والوصل بين صلاحياتها واختصاصاتها الكثيرة والمتشابكة.
لم تجب إيران حتى الآن على السؤال: هل الجمهورية الإسلامية تسعى لتجسيد التوصيفات الفقهية لنظام "ولاية الفقيه"؟ أم أنها جمهورية قائمة على الفصل بين السلطات؟ وكما فشل الإصلاحيون في الوفاء بوعود التغيير فشل المحافظون كذلك في إعادة تدوير أنفسهم، واكتساب شرعية جديدة في ضوء المتغيرات الداخلية والخارجية وتكييف اجتهاداتهم الدينية بحيث تستجيب لتطلعات قطاعات أوسع من الشعب الإيراني.