لا يختلف الكثيرون على أن الجيل الحالي من الجنس البشري يتمتع بدرجة من الرعاية الصحية لم يتوفر من قبل مثيلها للأجيال السابقة، فخلال العقود القليلة الماضية شهدت العلوم الطبية تطورات واختراقات واكتشافات، ساهمت جميعها بشكل رئيسي في خفض انتشار العديد من الأمراض وفي خفض الوفيات الناتجة عنها.
وتعتبر الأمراض المعدية سواء البكتيري منها أو الفيروسي من أكثر المجالات التي نجح الطب في تحقيق انتصارات واضحة وجلية لمقاومتها، فها هو فيروس الجدري المرعب قُضي عليه تماما منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وحاليا تحاصر منظمة الصحة العالمية فيروس شلل الأطفال في معاقله الأخيرة، آملة أن تقضي عليه هو الآخر بنهاية العام الحالي. ولكن رافقت الانخفاض في انتشار الأمراض المعدية وفي الوفيات الناتجة عنها، زيادة في الأمراض غير المعدية كأمراض القلب والشرايين والسكري والسرطان، وهو الواقع الذي تختلف الآراء والنظريات حول سببه. البعض يدفع بأن تطور الرعاية الصحية، نجح في إطالة متوسط العمر لأفراد الجنس البشري. وهو ما أدى الى زيادة عددية في المسنين وفي ما يصيبهم من أمراض الشيخوخة مثل مرض الزهايمر وهشاشة العظام وغيرها. بينما يرى آخرون أن تطور الرعاية الصحية ترافق معه تطور مماثل في أساليب التشخيص، بحيث أصبح ممكناً للأطباء حاليا تشخيص الأمراض بشكل أدق، فحاليا تتوفر للأطباء ترسانة من أجهزة التشخيص، مثل الأشعة المقطعية والرنين المغناطيسي والموجات فوق الصوتية وغيرها الكثير. هذا بالإضافة إلى قائمة طويلة جداً من التحليلات المعملية التي تتعدى الآلاف في عددها. كل هذا سمح بالتعرف عليها وتشخيص العديد من الحالات المرضية، والتي كان الأطباء قبل عقود قليلة يعجزون عن فهم السبب خلفها، وينتهي الحال بسبب وفاة غير معروف. الرأي الثالث يرى أن سبب هذه الزيادة في الأمراض غير المعدية هو سبب إحصائي ليس إلا، فمع تطور الرعاية الصحية تطورت ثقافة جمع المعلومات من المرضى وتدوينها في جداول إحصائية، وهو ما أظهر الأعداد الكبيرة التي تموت من مرض أو آخر.
وعلى رغم أننا لا يمكن أن نتجاهل كل تلك الآراء السابقة الذكر في تفسير الزيادة الملحوظة في انتشار الأمراض غير المعدية بين الجيل الحالي مقارنة بالأجيال السابقة، إلا أن كل تلك الآراء تعجز عن طرح تفسير واضح لاستمرار الزيادة في الأمراض المعدية حتى الآن، فمثلا في السنوات القليلة الماضية لم يشهد متوسط العمر أو أساليب التشخيص أو علم الإحصاء الطبي، أية قفزة نوعية أو كمية يمكن أن نركن إليها في استمرار زيادة الأمراض غير المعدية خلال تلك الفترة نفسها، هذا الوضع دفع الكثيرين لقدح زناد أفكارهم لتحديد عوامل أخرى ساعدت على تلك الزيادة، ولا زالت توفر الوقود اللازم للأمراض غير المعدية كي تنتشر بين أفراد الجنس البشري انتشار النار في الهشيم كما هو الوضع حاليا. وبالفعل خرج العلماء بعدد من العوامل التي يمكنها أن تفسر جزءاً من الحالة الصحية للجنس البشري في القرن الحادي والعشرين، والتي لا تلغي العوامل سابقة الذكر بل يجب أن تضاف إليها. ويمكن أن نقسم العوامل الجديدة تلك إلى عوامل جينية وعوامل بيئية. القسم الأول أو العوامل الجينية، يرى البعض أنه نتج من تطور الرعاية الصحية خلال السنوات القليلة الماضية، فحسب هذا الرأي، نجحت الرعاية الصحية في إنقاذ حياة الكثير من الأطفال والمرضى بأمراض وراثية، كانوا سيلقون حتفهم لو لم يتلقوا العلاج اللازم. بقاء هؤلاء الأشخاص على قيد الحياة، سمح لهم بالتزاوج في مرحلة من عمرهم، ومن ثم إنجاب أطفال آخرين يحملون العيوب الوراثية نفسها، وهو السيناريو الذي لم يكن ليحدث لولا نجاح الطب والعلاج في إنقاذ حياتهم من البداية، وهو ما نتجت عنه زيادة في عدد الأشخاص الحاملين لهذا العيب الوراثي من خلال التزاوج والإنجاب، وهو السيناريو الذي لم يكن أيضاً ليحدث في الظروف الطبيعية تحت قانون الانتقاء الطبيعي.
القسم الآخر أو العوامل البيئية، أصبحت مكوناته معروفة إلى حد كبير، حتى بين العامة من الناس، فمثلا عامل الرفاهية، وما يترافق معه من زيادة في كمية الطعام المستهلك والمصاحب بانخفاض في النشاط البدني، يؤدي في النهاية إلى السمنة والتي تعتبر مسؤولة عن زيادة أمراض القلب ومرض السكري وحتى آلام المفاصل والسرطان. وهناك أيضاً عامل التلوث البيئي، مثل تلوث الهواء وتلوث الماء والغذاء. فمثلاً بالنسبة لتلوث الهواء وبالتحديد التلوث الناتج عن عوادم السيارات، قامت منظمة الصحة العالمية ومنذ حوالى أربعة أعوام تقريباً، بنشر نتائج دراسة أجريت في كل من فرنسا والنمسا وسويسرا، أظهرت أن عدد من يلقون حتفهم نتيجة الأمراض التنفسية والقلبية الناتجة عن تلوث هواء المدن بعوادم السيارات، يزيد على عدد من يقتلون كل عام من جراء حوادث الطرق. فحسب الدراسة، يتسبب استنشاق الهواء الملوث بعوادم السيارات لفترات طويلة، في وفاة 21 ألف شخص كل عام من مواطني الدول الثلاث سابقة الذكر، وهو رقم يزيد على ضعف من يقتلون في ا