ما أن بدأ الكاتب المصري يوسف القعيد جولته الأولى عام 1993 في مدينة طوكيو، حتى افتقد في هذه الحاضرة الآسيوية الكبرى ثلاثة أشياء: الصيدليات، الحيوانات الأليفة، وخناقات الشوارع.. حتى في الأحياء الشعبية التي تجولتُ فيها في طوكيو وأوزاكا، يقول القعيد، "كانت تخلو من هذه الظاهرة المصرية"..!
ولكن ما سبب ندرة الصيدليات؟ "عندما سألت عن هذه الظاهرة، قيل لي إن وجود مشروع التأمين الصحي هو السبب. فالكل يعالج من قبل التأمين الصحي، والقليل والنادر هو الذي يذهب إلى الصيدلية بحثاً عن الدواء. كما أن بيع الدواء في الصيدليات لأي مواطن ممنوع. لابد من روشتة مكتوبة بمعرفة أحد الأطباء". [مفاكهة الخلان، ص 166].
تجاذبت ذات مرة أطراف الحديث مع دبلوماسي ياباني يعمل في دول الخليج، فسألني: ما أهم الأسئلة التي تعتقدون أن التجربة اليابانية قد تجيب عنها العالم العربي؟
أجبت بأنني فكرت مراراً في هذا السؤال، ولعلني أحصر أبرز القضايا العالقة في ست:
الأولى، هي التعليم. فنحن نعرف كم اليابان فقيرة في المواد الخام وموارد الطاقة. ومع هذا نجحت في تحقيق ثورة صناعية جارفة معتمدة على مواردها البشرية وتعليمها الحديث.
ولقد قرأنا كثيراً عن الجدية المتناهية في نظام التعليم هناك وصراع الخريجين من الثانوية على الجامعات وغير ذلك. فكيف لعب التعليم هذا الدور؟ وما الذي يمكننا اقتباسه منه؟ وما مدى تأثير التلفاز وغيره على الطالب الياباني؟
الثانية، الحسم الحضاري، إذ أننا منذ عقود في جدل عقيم حول الأصالة والمعاصرة، وما نأخذ من الغرب وما نترك، وهل ما نهض به الغرب وما نهضت به اليابان الشيء نفسه، وهل هوية اليابان الحضارية بعد كل هذا التقدم في خطر، وهل حصون اليابان مثلنا "مهددة من الداخل" بسبب الغزو الحضاري؟
الثالثة، التغير الحضاري النوعي. فقد كان المجتمع الياباني في القرن التاسع عشر ريفياً حتى أن القطار دخل مصر قبل اليابان. وأعطت اليابان مثل روسيا وتركيا ومصر الأولوية لتطوير الجيش وإرضاء العسكر. ولكن اليابان نجحت في التحول بشكل عميق شامل إلى مجتمع صناعي منتج حديث، في حين لم يحالف الحظ أية دولة عربية؟
الرابعة، تناغم القطاعين العام والخاص. بدأت نهضة اليابان في القرن التاسع عشر على يد الدولة والقطاع العام. وكانت هذه تنشئ المشاريع من المال العام ثم تبيعها في أحيان كثيرة للقطاع الخاص أو لبعض كبار الموظفين والمتنفذين. ولعبت الشركات الاحتكارية أو "الزايباتسو" دوراً مهماً في دعم التوجه الشمولي والتوسعي لليابان إلى أن تم تفكيكها بعد الهزيمة العسكرية عام 1945، لتلعب الشركات دوراً جديدا في توظيف اليابانيين من التخرج إلى التقاعد، لتتغير الأمور بعد ذلك مع الظروف الدولية الجديدة.
كيف نجحت الإدارة اليابانية في تحقيق هذا التناغم بحيث غدت اليوم، بناتجها القومي الإجمالي الذي يزيد عن 4055 مليار دولار، أكثر من ستة أضعاف إجمالي مجموع العالم العربي، والسادسة في مستوى الدخل الفردي، والثانية في مدى عمر الفرد، والأولى في مدى انتشار التعليم.
الخامسة، عدم هيمنة الأفكار المثالية والإيديولوجيات المتشددة على الشعب أو الدولة. فعلى رغم فتح الولايات المتحدة اليابان بالقوة عام 1868 ودخولها في حرب ضروس ضدها خلال الحرب العالمية الثانية وإلقاء القنابل الذرية على اثنتين من كبريات مدنها، وإجبار الاحتلال الأميركي لقادتها على تغيير الدستور والسماح للمرأة بحق الانتخاب، وتفكيك الشركات اليابانية الكبرى بسبب دعمها للطغمة العسكرية المغامرة، وتغيير مناهج التعليم، وتنقية سلك التعليم والإعلام من القوميين المتشددين، ووضع حد لحرية اليابان العسكرية.. على رغم هذا كله لم تهيمن على اليابانيين حالة من مناوأة أميركا والغرب، وكراهية النصارى، ولا انجرفوا نحو الانقلابات والاضطرابات والمظاهرات، بعكس دول آسيوية عديدة أبرزها باكستان وإيران والصين وتركيا.. وبالطبع العالم العربي! ليس هذا فحسب، بل إن الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي تشكل عام 1955 إثر تحالف بين مجموعة الأحزاب المحافظة، هو الذي حكم البلاد على امتداد 38 عاماً حتى عام 1993.
السادسة، علاقة النهضة بالدين وبحرية المرأة وبالفلسفة أو الخطة النهضوية. فما من باحث عندنا يخوض في قضايا النهضة والتقدم في العالم العربي والإسلامي، إلا ويرى في الدين ضرورة أو عائقاً، حسب التيار الذي ينتمي إليه. كما ينقسم دعاة التجديد عندنا بين داعٍ إلى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل كشرط للنهضة والتجديد، ومطالب آخر بعدم اتباع المسيرة الغربية للمرأة. وينادي النهضويون بيننا بفلسفة اصلاحية عامة للدين والسياسة والإجابة على الكثير من الأسئلة الحضارية قبل الخوض في النهضة الفعلية.
ولم يكن هذا جزءاً من تجربة اليابان الناجحة!
وليسمح لي القارئ بأن أنقل له ما ورد في مداخلة د. ياسومازا كورودا في "ندوة التراث وتحديات العصر"، سبتمبر 1984 - بيروت. وقد قال إن المسيحية مثلاً لم تجذب سوى أقل من واحد ف