انشغل الجميع في الفترة الأخيرة بالبحث عن حل لمعضلة نقل السلطة في العراق، بل دار الحديث في واشنطن حول سيناريوهات ومشروعات لحل هذا اللغز الذي بات يحير الجميع. فالإدارة الأميركية لا تزال حائرة في تحديد الموعد ليس خوفاً من العراقيين بقدر خوفها من نتائج الانتخابات. وفي الوقت نفسه تزداد خشيتها من علماء الشيعة خوفاً من إصدار فتاوى لمحاربتها، والأمم المتحدة ترفض العودة إلى العراق قبل أن يتسلم العراقيون مسؤولية السلطة والسيادة، ومجلس الحكم العاجز ينفذ أوامر الاحتلال ويتقدم في كل يوم برأي جديد يزيد من تعقيد الموقف بدلاً من أن يساعد على حله، لأن انقساماته الطائفية والعرقية والمذهبية طغت على مصلحة العراق، والمرجعيات الدينية الشيعية تطالب بتدخل الأمم المتحدة لضمان الانتخابات واستلام السلطة، والعراقيون أنفسهم تائهون بين الجميع بعد أن فقدوا الأمن والأمان، وأصبحوا يترحمون على أيام صدام. لذلك بات السؤال المطروح: ما هو لغز نقل السلطة في العراق وليس نقل السيادة؟
الإجابة على هذا السؤال المشروع تحتاج منا إلى التعرف أولاً على الشروط الواجب توافرها ليتحقق نقل السلطة إلى العراقيين، وأيضاً الوقوف على الأطراف المعنية بتحقيق هذه الشروط ومصالحها وأهدافها ومواقفها.
من أبسط الشروط الواجب توافرها حتى يمكن نقل السلطة إلى العراقيين وجود حكومة وطنية عراقية مقبولة من جميع الأطراف، ووجود قانون ينظم الانتخابات، وتخلي عناصر المجتمع العراقي عن العصبيات والطائفية عندما تتوجه لاختيار ممثليها، وتوافر حالة من الاستقرار والأمن تضمن تحقق باقي الشروط.
يأتي وجود حكومة وطنية عراقية تذوب داخلها كل التيارات والتوجهات والمصالح الآنية على رأس ضرورات نقل السلطة، ولكن هذا يعتبر في الوقت الراهن من ضروب المستحيل. لقد اتفق العراقيون على ألا يتفقوا، فعشرات الأحزاب على الساحة العراقية تجري وراء مصالحها الخاصة، وكل طائفة تبحث عن فرصة لتعوض ما فاتها في الظلام، والزعماء الدينيون يسعون لتسجيل مواقف سياسية تعينهم في المستقبل ليصبحوا مراجع "خومينية"، ناهيك عن سلطة الاحتلال التي لها رأي خاص في تشكيل واختيار الحكومة العراقية، إذن كيف يتحقق هذا الشرط.
يفتقر العراق إلى سجلات الناخبين، بل لا يتوافر حالياً إحصاء لعدد السكان، ولم يصدر حتى الآن قانون تنظيم الانتخابات المنوط به تنظيم الدوائر الانتخابية وتسجيل الناخبين، وكل هذا لا يحتاج إلى وقت فحسب، بل يتطلب أمناً واستقراراً، ثم كيف يشعر الناخب بحرية الاختيار والتعبير عن رأيه إذا كان قد افتقد ذلك لعقود من الزمن؟ لذلك سيكون عليه التقيد بطائفيته والالتزام بعرقيته والاحتماء بروابطه القبلية لأنها السيف المسلط على رقبته حالياً، وكل هذا سينعكس سلباً على نتائج الانتخابات، بل قد تكون النتائج سبباً في تفشي الفوضى بدلاً من أن تكون وسيلة للاستقرار.
ولا يبدو حتى الآن أن المجتمع العراقي قد وعى درس الفرقة وتخلى عن التشتت وتداعياته عليه أو اتجه نحو التمسك بهويته الوطنية، فالجميع بات يحلم بالسلطة والجاه والحصول على جزء من الميراث، فسادت النزعة الفردية على حساب العراق، وتفرق الجميع بعد أن تضاربت المصالح واصطدمت الطموحات.
أما عن حالة الفوضى وعدم الاستقرار وافتقاد الأمن فإنها قد أضحت السمة العامة للوضع الداخلي في العراق، بعد أن شاعت حالة الانتقام بين الجميع ومن الجميع، وأصبح العراق ساحة مستمرة للقتال المدبر تارة والعشوائي في مرات كثيرة، ويسقط الضحايا من مختلف الأطراف، بعضهم من الأجانب، والكثير منهم عراقيون، ولا سبيل إلى الفرار من النار التي تأكل الأخضر واليابس كما يقولون سوى العودة إلى مصلحة العراق أولاً، وهو أمر يصعب حدوثه في المستقبل القريب.
من كل ما سبق يتضح مدى تعقد لغز نقل السلطة فقط إلى العراقيين. ومما يزيد الأمر غموضاً وتعقيداً موقف وتوجهات الأطراف المعنية ومبرراتها لذلك، فسلطة الاحتلال جاءت لتبقى ولن تسلم السيادة العراقية لأحد غيرها، ومبرراتها في ذلك هي: أولاً، استمرار انتشار حالة الفوضى وانعدام الأمن في ظل ضعف الأجهزة الأمنية العراقية التي لا زالت في طور الإنشاء، والمبرر الثاني هو تأمين المصالح الأميركية في العراق. إذن الحديث عن نقل السلطة يتطلب في البداية فهم ماهية السلطة العراقية المطلوب نقلها في ظل افتقاد السيادة الواقعية والحقيقية على الأرض، ومن هم أصحاب السلطة الحقيقية إذا استمر احتلال العراق لسنوات عدة مقبلة؟ ثم من هو القادر على منح السلطة أو حجبها غير الولايات المتحدة؟
أما أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، وهو سلطة غير منتخبة وتفتقر إلى الحدود الدنيا للشرعية، فقد زجوا بأقاربهم وأصدقائهم وحلفائهم لدخول الحكومة العراقية المؤقتة دون أي اعتبار لمصالح العراق أو العراقيين، وهم يريدون استمرار السلطة في أيديهم إلى أبد الآبدين، ولا يمتلكون القدرة على معارضة صاحب القرار الأوحد في العراق السيد بول بريمر زعيم حزب البعث الأميركي، ولذلك فإنهم