بدأت الحملة على "الشرق الأوسط الكبير" وهو الاسم الذي أطلقه الرئيس بوش على مشروعه التطويري، من فرنسا، ومن الرئيس شيراك بالذات. وقد تهرَّبَ آخرون عرباً وأوروبيين بل وإسرائيليين من التعليق، بحجة أنهم لم يطّلعوا عليه بعد. والمعروف أنّ الإدارة الأميركية وزّعتْه على دول حلف شمال الأطلسي لمناقشته في اجتماع الحلف في شهر يونيو المقبل. وقد يبدو غريباً ألا يُطْلع الأميركيون دول المنطقة على مشروعٍ يخصها، ويرادُ إنفاذُهُ في ديارها. لكنّ عُذْر الأميركيين مرةً أُخرى أنها مبادرةٌ من بوش، يريد تحويلها إلى شراكةٍ مع أوروبا، لإعادة بناء الشرق الأوسط. ولذلك يكون من المنطقي أن يرى الأوروبيون المشروعَ أولاً، ثم يجري عرضُهُ علينا من جانب الطرفين (إذا اتفقوا). نحن السعداء المحظوظين، الذين يريد الرئيس الأميركي أن يقودنا إلى الجنة بالسلاسل! والمعروف أنّ الأميركيين تنافسوا مع الإسرائيليين في مطالع التسعينيات في عرض مشاريع شرق أوسطية، في مواجهة متوسطية الأوروبيين. وقد تحمسْنا وقتها للشراكة مع أوروبا وعٌقدت اجتماعاتٌ، ووُقّعت اتفاقياتٌ ثم انتهى ذلك كلّه للاشيء، إلاّ "الشراكة مع أوروبا" وهي درجةٌ تقلُّ كثيراً عما كان معروضاً في البداية، ثم إنها تتمُّ من جانب دولٍ أفرادٍ، حتى الآن، على رغم المفاوضات المتقطعة مع الاتحاد المغاربي، ومجلس التعاون الخليجي.
"الشرق الأوسط الجديد " هو المشروع الذي طرحه شمعون بيريز السياسي الإسرائيلي المخضرم، وزعيم حزب العمل اليوم، حوالى عام 1992. ويقوم المشروع على وصف محاسن السلام وفوائده على الصعيدين الاقتصادي والإنساني. فنتيجة السلام بين إسرائيل والعرب، ستكون خيراً على الجميع إذ تنفتح الحدود، وتزدهر الحركة التجارية بما يتبع ذلك من خطوطٍ للطيران والسكك الحديدية، وتتخصص الجهات والدول المختلفة؛ كلُّ واحدة أو اثنتين بنشاطٍ معيَّنٍ أو مجالٍ تكنولوجي معين، فيكون هناك تكامُلٌ وتعاوُنٌ وانفتاح. وهذا التكتل الإسرائيلي/ العربي يستفيد من التقدم الإسرائيلي، كما يستفيد من علاقات إسرائيل الممتازة بأوروبا والولايات المتحدة. والواضح أنّ هذا التصور التفاؤلي – بغضّ النظر عما قصده بيريز بالسلام الشامل والكامل آنذاك – استند إلى مفاوضات مدريد. وجاء الحلّ الانفرادي في أوسلو، وتبلور السياسة الأميركية للاحتواء المزدوج (للعراق وإيران) وصعود اليمين الإسرائيلي بعد مقتل رابين؛ بحيث وصل نتنياهو للسلطة؛ جاء كلُّ ذلك ليضع حداً لأحلام الصهيونية "المتنورة" في شخص بيريز. وهناك من يعتبر أنّ سياسة الاحتواء المزدوج، والحصار على ليبيا والسودان؛ كلّ ذلك كان وراء تراجُع الأميركيين أيام كلينتون عن طرح رؤيةٍ شاملـةٍ لمستقبل "الشرق الأوسط"؛ على رغم حديث بوش الأب عام 91/92 عن النظام العالمي الجديد. بيد أنّ هذا الانطباع غير منصف. فقد ركّز كلينتون على الوصول إلى حلّ في النزاع الفلسطيني / الإسرائيلي، اعتقاداً منه أنَّ استمرار ذاك النزاع سيحولُ دون التعاون والتواصُل بالمنطقة .
ارتبطت الشرق أَوسطيات في أذهان العرب ووعيهم بالمشروعات الأميركية لملء الفراغ الذي خلفه الخروج الاستعماري القديم (البريطاني والفرنسي) من المنطقة العربية، ونشوب الحرب الباردة. يومها تحدث الأميركيون عن تحالف شرق أَوسطي، يحول دون أن يملأ الاتحاد السوفييتي ذاك الفراغ. والمعروف أنّ هذا كان معنى "حلف بغداد " الذي قاومته مصر، وقاومه العرب القوميون، الذين ما أرادوا أن يودّعوا استعماراً قديماً ويستقبلوا استعماراً جديداً. فقد كان رأي مصر، والعرب المتحالفين معها، دائماً: المشرق العربي، والمشروع العربي هو الحقيقة القائمة والباقية بعد الانتصار على الاستعمار وإخراجه. والشرق الأوسط تعبيرٌ غامضٌ يرمي لإلغاء العرب أو إضعافهم بإدخال مَنْ هم في جوار الوطن العربي، ضمن الحلف الجديد. والتعبير نفسه "الشرق الأوسط" يرادُ منه – بإدخال دول كبرى فيه وإسرائيل – إضعاف التأثير العربي على مجريات الأمور والمصائر. وفضلاً عن ذلك؛ أو عن الاعتبارات الجيوسياسية، كانت الفكرة الأميركية: إقامة سدّ في وجه الشيوعية، وإعطاء مساعدات من أجل التطور والتطوير، كما حدث مع ألمانيا واليابان. بيد أنّ هذه التصورات صرفت عنها الثورات والانقلابات (وثورة 14تموز / يوليو 1958 في العراق بالذات)، ومراعاة الولايات المتحدة لإسرائيل، ورفض العرب الدخول مع إسرائيل في شراكة.
ولذلك؛ يذكّر "الشرق الأوسط الكبير" بالشرق الأوسط أيام أيزنهـاور وكنيدي؛ لعدة أسباب منها: توسيع إطار التحالف بحيث يشمل إلى جانب العرب وإسرائيل كلاً من إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان ، واعتبار أنّ مشكلتي العرب الرئيسيتيـن: التخلف، والأنظمة الاستبدادية. وهكذا يجري تجاهُل السياقات الحاصلة، واختيار أولويات مجتزأة، ومساحة استراتيجية شاسعة يتضاءل فيها وزن العرب وحجمهم، كما سبق ذكره. يحتج مشروع الرئيس بوش لنفسه بتقريري التنمية الإنسانية العربية للعامين 2002 و2003، واللذين صاغهما كتّاب و