لقد أصابت وكالة ناسا الأميركية لبحوث الفضاء، حظا كبيرا، وحققت فتحا جديدا من فتوحاتها في مجال الكشوف الفضائية، عندما هبط مسبارها سبيريت الشهر الماضي بنجاح على سطح كوكب المريخ، واستطاع أن يرسل صورا في غاية الوضوح عن ذلك الكوكب. فإثر ذلك النجاح غير المسبوق، استطاعت ناسا أن تكرر التجربة ذاتها بمسبار هبط هو الآخر سالما، فوق سطح الكوكب الأحمر. على عكس ذلك تماما ما حدث لأوروبا مع مسبارها "بيجل" الذي أخفق في الهبوط على المريخ، وضل طريقه واختفى تماما، دون أن تتوفر أية إمكانية لتتبع مساره.
في الواقع فإن هذه المفارقات الدرامية التي حدثت مؤخرا على جانبي المحيط الأطلسي، تعكس مدى حجم وجدية التحديات التكنولوجية التي يواجهها علماء الفضاء الأوروبيون، سيما في صراعهم من أجل المحافظة على مستوى واحد مع نظرائهم الأميركيين. وهم في ذلك يجدون أنفسهم بين رحى التنافس والتعاون معهم. غير أن المشكلة الرئيسية التي تواجههم هي التمويل، حيث لا تتعدى الميزانية المخصصة لبحوث الفضاء الأوروبية سدس الميزانية المتاحة لزملائهم الأميركيين.
لذلك يصر فرانكو أونجارو، رئيس مشروع الوكالة الفضائية الأوروبية، على القول إن الفارق بين أميركا وأوروبا في مجال البحوث الفضائية، إنما هو فارق كمي وليس نوعيا. بلغته الخاصة قال أونجارو: نحن لا نزال طبقة عالمية. وبالفعل فإن أوروبا تتمتع بمركز عالمي غير مشكوك فيه في هذا المجال، على رغم ما حدث لمسبارها الأخير. يصدق هذا على مستوى الطموحات، على الأقل. فهي تتطلع إلى إرسال طاقم بشري فضائي بحلول عام 2030 إلى الكوكب الأحمر، على أن تنجز قبل ذلك عودة أخرى للقمر، في وقت سابق لما أعلنه الرئيس الأميركي جورج بوش من نوايا مماثلة خلال عامين من الآن. ولكن لا يزال على أوروبا أن توفر ما يكفي من ميزانيات مالية لما تعلنه من طموحات وتطلعات فضائية. فليس في وسع أونجارو حتى هذه اللحظة سوى القدرة على إقناع الحكومات الأوروبية بتخصيص ما تصل قيمته إلى حوالى 14 مليون يورو، أي ما يعادل 18 مليون دولار فقط على مدى الثلاث سنوات التي تلي إطلاق مشروع برنامجه الفضائي. وفي الوقت الراهن والحديث هذه المرة لبيتر سيلدنج المحلل لدى مجلة الأخبار الفضائية، فإن كل الوعود ليست أكثر من مجرد دخان عالق في الهواء.
غير أن إعلانات الرئيس جورج بوش الأخيرة عن نوايا، بل تعهدات بالعودة إلى عصر الكشوف الفضائية البشرية، وإنهاء مشروع المحطة الفضائية الدولية، والتطلع إلى تكنولوجيا الروبوت الفضائية، بحيث تكلل هذه الجهود بابتعاث طاقم استكشافي بشري إلى كوكب المريخ، كل ذلك جاء من مصلحة الباحثين والمستكشفين الأوروبيين. كيف؟ لقد اكتسب المشروع الأوروبي الخاص باستخدام القمر كمحطة أولى للوصول إلى المريخ، جدواه ومشروعيته من خلال التصريحات الأميركية التي صبت في الاتجاه ذاته. ولو لم يكن خيار التعهدات الأميركية التي أعلنها بوش مؤخرا غير ذلك الطريق، لما قامت للمشروع الأوروبي الفضائي قائمة. هذا هو ما عبر عنه أونجارو بقوله: ما كان لنا أن نسلك خيارا آخر عدا ذلك الذي سلكته وكالة ناسا. وإن حدث أن فعلنا، فإنه لن يكون لخيارنا معنى البتة.
في الوقت ذاته، فإن التعهدات والجدول الزمني الأميركي المعلنين في هذا الشأن، سيفتحان الباب أمام فرص تمويل جديدة وأكثر سخاء لبرامج البحوث الفضائية الأوروبية. فعلى رغم أن المكوك الفضائي الأميركي سيبدأ في مرحلة تصنيعه اعتبارا من عام 2010، إلا أنه لن يدخل الخدمة فعليا، إلا اعتبارا من عام 2014. وعليه فإنه لن يكون للأوروبيين أي مكوك فضائي آخر عدا المكوك إيريان للوصول إلى المحطة الفضائية العالمية. وينطبق الشيء نفسه على الروس الذين ليس لهم من بديل آخر لمكوكهم سويوز. ولكن الإيجابي في الرحلات الفضائية المستقبلية، هو أن وكالة ناسا تفكر حاليا- ولأول مرة في تاريخها- في التعاقد في الرحلات الفضائية التي تزمع تنفيذها مستقبلا، مع وكالات أخرى غير أميركية، وذلك سعيا منها لسد الفجوة والثغرات الموجودة في برامجها.
وبالعودة إلى المقارنة المالية بين ناسا والفضائيين الأوروبيين، نلحظ أن المال يمثل عقبة رئيسية أمام برامج البحوث الأوروبية النظيرة. فإجمالي الميزانية المخصصة لبحوث الفضاء في أوروبا- بما فيها المشروعات العسكرية- لا يتجاوز مبلغ 5.4 مليار يورو، وهو المبلغ الذي تنفق ناسا أكثر منه على بناء المكوك وحده. استشعارا لهذا الضعف، دعت المفوضية الأوروبية حكوماتها لمضاعفة الإنفاق على البرامج الفضائية في غضون العشر سنوات المقبلة. وحذر البيان الصادر عن المفوضية، حكومات أوروبا من مغبة تراجع دور القارة بوصفها قوة فضائية عالمية، فيما لو لم تتبع الحكومات، الخطوط والموجهات العامة للسياسات الفضائية المعلنة من قبل المفوضية. وقالت الأخيرة إن تراجعا كهذا سيكون حتميا، لأنه لن تكون لأوروبا القدرة على تطوير التكنولوجيا الفضائية الجديدة وتطبيقاتها العملية، مما يعنى تراجع قدرتها التنافسية في هذا المجال. ف