منذ الساعة الأولى لانطلاق قناة الحرة الأميركية انطلقت حملة عربية إعلامية مضادة لها، وحكم الكثيرون على بضاعتها بأنها فاسدة حتى قبل أن يروا البضاعة، وقد جعلهم أسلوب الترويج للقناة يزدادون نفوراً. فقد وصفت بأنها (قناة ردع) للقنوات العربية، مما يوحي بأنها عدوانية تجاه الإعلام العربي، ومهمتها الحد من نفوذه والتشويش على رسالته. كما أن مهمتها تحسين صورة أميركا عبر الدعاية، وليس عبر الفعل السياسي. وقد قيل إنها ستقدم التصور الأميركي للأحداث. وقيل إن من مهامها تغيير سلوك الحاكم العربي، وسلوك الشعب العربي كذلك. ولم يكن الكثيرون بحاجة إلى كل هذا التوصيف لاتخاذ موقف مسبق. فهناك حالة متنامية من الكراهية للسياسة الأميركية ليس في البلدان العربية والإسلامية فحسب وإنما في العالم كله. بل حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها. والإدارة الأميركية تدرك خطر تنامي هذه المشاعر المعادية لسياساتها، وهذا ما يدفعها إلى تخصيص ملايين الدولارات لتحسين صورتها في عيون العرب، أولاً عبر قناة تلفزيونية اعتبرتها الإدارة الأميركية أكبر مشروع إعلامي دولي غير تجاري تدعمه الولايات المتحدة. وقد كان السؤال المباشر الذي وجهه العرب: هل ستكون هذه القناة حرة حقاً؟
ذاك أن غالبية العرب يعتقدون أن الإعلام الأميركي خاضع في أكثره لنفوذ صهيوني متطرف ينطلق من معاداة العرب والإسلام، ويرون أنه غير معني حقيقة بتحسين صورة أميركا أو تشويهها، لأن مهمته الأساسية هي تحقيق اختراق لمنظومة القيم والمفاهيم والتقاليد العربية الإسلامية، ونشر أسلوب حياة وعيش ونظم اجتماعية على الطريقة الغربية، وهذا ما يفسر الاهتمام بالموسيقى والغناء في بعض المحطات الإذاعية الأميركية الموجهة للعالم العربي أكثر من الاهتمام بالسياسة. لأن الموسيقى والغناء أقدر على النفاذ إلى الوجدان العام، بالإضافة إلى الندوات والحوارات التي تسعى إلى ترسيخ مفاهيم غربية احتفالية أو نشر قيم اجتماعية تركز على إشباع العواطف والرغبات المكبوتة وتجعل من مناقشة قضايا الحب والجنس وحقوق المثليين أولوية سابقة على الاهتمام بقضية فلسطين والعراق وحقوق اللاجئين والأراضي العربية المحتلة... وتجعل الحديث عن حرية المرأة أولى من الحديث عن حرية الوطن. وحين تتحدث عن السياسة فإنها تثير حقوق الأقليات وتهمل حقوق الأكثريات، في تجاهل لكون الجميع أقلية وأكثرية يعانون من الظروف القاسية التي يفرضها العدوان الخارجي على الأمة. وهي بالطبع تغفل الحديث عن العدوان أصلاً، وتتعامل مع الوجود الأجنبي على الأرض العربية على أنه رسالة رسولية تنقذ الأمة من الظلم والاستبداد. ومهمتها نشر الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، في إغفال مطلق لدور التدخل الأجنبي في دعم وتعزيز نظم الاستبداد، ومنع قوى التحرر الوطني من تحقيق تقدم ذاتي بإرادة مستقلة. وهي بالتالي تصف الإسلام بأنه دين يقدس العنف، وتصف المقاومة للاحتلال بأنها إرهاب.
ولست على صعيد شخصي ممن يخشون ظهور قناة أو قنوات أميركية تتوجه إلى مشاهدنا العربي فيما إذا كانت حرة حقاً، ولا سيما إذا أخلصت لبعض ما تعلن من شعارات مثل تحقيق أكبر درجة ممكنة من الفهم الحضاري والاحترام المتبادل، ومثل قولها إنها ستكون مثالاً للصحافة الحرة على الطريقة الأميركية، وقولها إنها ستلتزم بنشر الحقيقة، وسوف تبرز كشعاع نور في ساحة إعلامية تسودها الإثارة والتشويه. فهذه شعارات مقبولة شكلاً، إذا كانت قادرة على أن تعبر عن كل اتجاهات الرأي في الولايات المتحدة، دون أن تظهر قناة دعائية للمشروع الصهيوني وأنصاره، ودون أن تكون مهمتها تبريرية لأخطاء الإدارة الأميركية في التعامل مع قضايا العرب والمسلمين. فنحن لا نكن للشعب الأميركي وثقافته أية كراهية، ولا شأن لنا بأسلوبه في العيش والتفكير. بل إن العرب كانوا يرسلون أبناءهم بالألوف إلى الولايات المتحدة ليتعلموا، ويجلبوا لأمتهم أفضل ما لدى الحضارة الأميركية من علوم وثقافة وفنون، وقد أحزننا أن المعاملة السيئة التي لقيها أبناؤنا في الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر جعلت كثيرين من الآباء يخافون على أبنائهم ويفكرون بإيفادهم إلى بلدان أخرى، وهذا ما سيشكل سلبية مستقبلية على العلاقات بين العرب والولايات المتحدة بعد عقود. ولم تكن الثقافة الأميركية غائبة يوماً عن حياتنا العربية. فنحن نشاهد ما تنتج هوليود منذ طفولتنا، وقد شاهدنا الكثير من الأفلام الصهيونية التي تسيء إلى العرب وإلى الإسلام، وكنا نغضب ونقول إن الشعب الأميركي الطيب مغلوب على أمره، فالمبدعون الصهاينة قدموا في الغرب عشرات الأفلام التي تسيء إلى السيد المسيح (عليه السلام)في عقر دار المسيحية الغربية، فمن باب أولى أن يسيئوا إلى النبي المصطفى (عليه الصلاة والسلام ).
لكن المحصلة العامة لجهد مئة عام من الحملات الإعلامية ضد العروبة والإسلام كانت خائبة ومخفقة من وجهة نظر الصهيونية. لم تفلح في تغيير شيء من ثوابت الأمة بدليل أن الأجيال الشابة ازدادت تعلقاً بثوابتها القومي