إن التقريرين الخاصين ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واللذين تم إعدادهما من قبل باحثين ومفكرين عرب، ونشرا في نيويورك عامي 2002، و2003. يقدمان صورة قاتمة لواقع الأحوال في العالم العربي. بيد أنه عقب الزيارة التي قمت بها إلى أبوظبي الشهر الماضي للمشاركة في فاعليات المؤتمر الذي يعقده مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية سنويا، والذي كان عنوانه هذا العام: الخليج وتحديات المستقبل، فإن الانطباع الذي خرجت به هو، أن ما جاء في تقريري التنمية الإنسانية المشار إليهما أعلاه، لا ينطبق على هذه الدولة العربية لأسباب عدة منها: الانفتاح الذي لمسته أثناء وجودي هناك والذي يعبر عن ثقافة قائمة على الحوار، والاستعداد الذي يبديه المسؤولون فيها لمعالجة الموضوعات العاجلة التي يتعين مناقشتها.
كان الموضوع العام الذي ناقشناه في المؤتمر هو التحديات التي تواجه الخليج في المستقبل. في اعتقادي، أن الاستجابة الصحيحة لدول الخليج إزاء تحديات المستقبل تكمن في إدخال تجديدات في الدولة والمجتمع. ولكن ما المقصود بهذه العبارة؟
لشرح هذه العبارة، يتعين علي بادئ ذي بدء، أن أحدد النقطة التي سأنطلق منها: هذه النقطة هي أن عصرنا الحالي يشهد تكوين نظام يقوم على الشبكات، يشمل العالم بأكمله، ويقوم بتغييره إلى درجة تجعل منه مجرد قرية عالمية صغيرة. والمحصلة الناتجة عن مثل تلك العمليات، ستمثل تحديا ضخما يتعين على جميع الدول مواجهته. انطلاقا من هذه الرؤية، سأقوم بالنظر إلى منطقة الخليج العربي، في محاولة مني لشرح الكيفية التي يمكن بها للتجديدات السياسية والثقافية، أن تضع منطقة الخليج -باعتبارها منظومة فرعية تابعة للمنظومة الدولية- في موضع يسمح لها بمواجهة تلك التحديات على نحو أفضل. في البداية، يتعين علينا أن نتعلم أننا، في عصرنا العولمي الجديد، بحاجة إلى تأسيس قواسم مشتركة بين البشر بطريقة عابرة للثقافات، ومن منظور ثقافي يؤمّن بالنجاح.
على الصعيد الاقتصادي، تعتبر منطقة الخليج من المناطق ذات الأهمية المحورية القصوى، ليس فقط بالنسبة للاقتصاد العالمي، ولكن أيضا بالنسبة للسياسات العالمية، ولمستقبل النظام العالمي. وعلى هذا، يمكن القول إن التجديدات المطلوبة في هذا الجزء من العالم، تعتبر ذات أهمية للمجتمع الدولي بأسره في الوقت نفسه. ولتعزيز الأهمية الحقيقية للخليج العربي في القرن الحادي والعشرين، فإننا بحاجة إلى السعي من أجل ترسيخ بيئة اقتصادية صحية، وإلى إدراك أن ذلك السعي يتطلب إدخال تجديدات سياسية في المقام الأول.
ولكن هذا الأمر لم يتحول إلى حكمة ثابتة بعد في هذه المنطقة، حيث نلاحظ أن النهج القديم الذي يدعو إلى الفصل بين الاقتصاد والسياسة لتجنب الخلاف والجدل، لا يزال معمولا به حتى الآن. هذا النهج تم تبنيه من قبل البعض في المجتمع التجاري في الدول الغربية، وهو ما يحيلني في هذا السياق، إلى تذكر الاجتماع الألماني- الكويتي الذي عقد في ثمانينيات القرن الماضي، والذي حضرته بصفتي خبيرا استشاريا. ففي ذلك الاجتماع وعندما قام الجانب الكويتي بتناول بعض الموضوعات السياسية المعلقة، كان رد الوفد الألماني هو أن الموضوع المطروح للمناقشة بينهما هو التجارة والأعمال، وليس السياسة. والآن وبعد مرور عقدين من الزمان على هذا الاجتماع، وفي بدايات القرن الحادي والعشرين، فإننا نجد أنفسنا أمام عالم متغير ترتبط فيه السياسة والاقتصاد برباط واضح لا ينفصم. والمطلوب منا في هذا الصدد هو إقامة نوع من التوازن بين الاثنين، مع مراعاة الحذر حتى لا نقع في فخ تسييس الموضوع، أو صبغه بصبغة سياسية، ومع عدم إغفال الصلة بين الاقتصاد والسياسة في الوقت نفسه.
هذه هي النقطة التي أنطلق منها لتبيان الأهمية الخاصة لمنطقة الخليج العربي. إن القادة العرب في الخليج ، المهتمين بالشؤون السياسية و بالرفاهية الاقتصادية لشعوبهم ولمنطقتهم، يدركون جيدا هذا التداخل بين الاقتصادي والسياسي، كما يدركون أيضا التحديات التي تنشأ كنتيجة لذلك التداخل. وهم إلى جانب هذا وذاك، يدركون الأخطار الكبيرة التي تتعرض لها منطقتهم.
لتلخيص هذه النقطة، أرى أن الخليج يمكن، وبشكل نموذجي، أن يلعب دورا محوريا بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، إذا ما تحول إلى نموذج للتجديدات اللازمة للتغلب على نواحي القصور، والمسائل المستعصية الموجودة حاليا.
وقد قامت دبي في الماضي بتدشين جهود تهدف إلى تحقيق التفوق والبروز، من خلال رفد القطاع النفطي المهم، بالتجارة الحرة، واقتصاد السوق الحديث. وهذه الجهود لا تزال مستمرة حتى اليوم، وهي تمثل في نظري دليلا يدحض الآراء المتحيزة التي تنقلها بعض وسائط الإعلام الغربية، والتي تقول إن أنماط الثقافة العربية والإسلامية، تتناقض مع أسس ومتطلبات الاقتصاد العصري. والتجديدات السياسية المطلوبة، يجب أن تفخر بالجهود التي تم القيام بها فعلا في مجال التجديدات السياسية والثقافية المطلوبة لمواجهة التحديات موضوع البحث. وهذه التجديدات يجب