الأنباء القادمة من باكستان تبدو وكأنها تفصيلات مستقاة من رواية رديئة. فنحن نقرأ عن عالم مارق يقوم ببيع أسرار نووية لدول أخرى، وعن اعتراف عاطفي يقوم الرجل بتقديمه لرئيسه بشكل مسرحي، وعن رئيس يدعي أنه لم يكن يدري أي شيء عما يحدث.
إن الحقيقة في النهاية هي أن ذلك العالم، المدعو عبد القدير خان، قد باع تكنولوجيا نووية، وأن واشنطن قد قبلت بالتفسير الذي قدمه الرئيس الباكستاني والذي يقول إن الدكتور خان كان يتصرف بمفرده عندما قام بذلك.
إن اعترافات الدكتور خان، تناسب كلا من باكستان وأميركا، طالما ظل القبض على قادة "القاعدة" و"طالبان" (قد يكون الكثيرون منهم مختبئين في باكستان)، أكثر أهمية من باقي الموضوعات. ومن المعتقد على نطاق واسع سواء في باكستان أو غيرها، أن الحكومة كان لديها علم بأنشطة خان. وإذا ما تم إثبات ذلك فإنه كفيل بجعل الرئيس مشرف، والجيش، والمخابرات الباكستانية متواطئين في جريمة العصر النووية. وعلى رغم أن ذلك ليس مرجحا، إلا أن مشرف كما يبدو، يقول الحقيقة هذه المرة.
بيد أن حقيقة أن هذه العملية المارقة قد مرت، دون أن تلاحظها حكومة إسلام أباد وجيشها، لتجعل العالم أكثر قلقا من ذي قبل، ويجب أن تجعل المسؤولين في واشنطن يعيدون التفكير في سياساتهم نحو باكستان.
من الناحية الاستراتيجية، ليس من المرجح أن يكون الجيش الباكستاني- دعك من الاستخبارات الباكستانية- قد قام بتوجيه خان لبيع الأسرار النووية لكوريا، وليبيا، والعراق. لماذا؟ لأنه من مصلحة باكستان، أن تجعل من مسألة المحافظة على علاقات طيبة مع الصين.. أكثر أهمية من مسألة الحفاظ على علاقات طيبة مع كوريا الشمالية، وخصوصا أن بيع أسرار نووية لكوريا الشمالية لا بد وأن يكون قد أغضب الصينيين بالتأكيد. أما بالنسبة للعراق وليبيا ، فإن الاستراتيجيين الباكستانيين كانوا يعرفون أن مساعدة الدول الشرق أوسطية على الحصول على أسلحة نووية، سوف يجلب عليهم غضب الإسرائيليين.
من الناحية المقابلة يجب أن نعرف أن الدكتور خان لم يكن رجلا استراتيجيا. فشهرته ترتكز على كونه عالما متخصصا في المعادن، نجح في إتقان عملية تركيب المحركات على تصميمات وحدات الطرد المركزي التي سرقها من مصنع هولندي. إضافة إلى ذلك كان خان عضوا في الشبكة الباكستانية العالمية لسرقة التكنولوجيا، والتي تم تنظيمها بواسطة الحكومة في سبعينيات القرن الماضي، كما كان رجلا قام بإنشاء مركز اتصالات هاتفية يمكن للقوى الطامحة نوويا أن تتصل به للحصول على مساعدات لتصنيع قنبلتها النووية. ونظرا إلى أنه كان شخصا مصابا بهوس عبادة الذات، فإنه قرر أن يسيطر أيضا على الصحافة الباكستانية كي يتمكن من خلالها من تحويل نفسه إلى بطل قومي.
والمشكلة حينذاك لم تكن هي أن الجيش كان لديه علم بالتصرفات الطائشة التي كان يقوم بها خان، ولكن المشكلة هي أنه- أي الجيش- لم يكن على درجة من القوة تتيح له الضغط عليه، وكبح تصرفاته، أو التعامل مع الغضب الشعبي الذي يمكن أن يترتب على ذلك. وكنتيجة لهذا الوضع، فإنه يمكن القول إن جزءا من البرنامج النووي الباكستاني كان واقعا فعليا خارج نطاق معرفة مسؤولي الحكومة الباكستانية، سواء المدنيين منهم أو العسكريين. وجزء كبير من هذه المشكلة يرجع في جذوره إلى طبيعة الدولة الباكستانية ذاتها.
فعلى رغم أن الرئيس مشرف يقول إنه يسير ببلاده نحو الديمقراطية، إلا أنه لا توجد سوى دلائل قليلة على أنه يقوم بذلك. بل إن الحقيقة هي أن باكستان، تحت رئاسته، قد فشلت حتى كنظام أوتوقراطي استبدادي. فأي نظام أوتوقراطي صارم كان يمكنه على الأقل أن يحد من حرية خان في السفر، وأن يمنعه من بيع أسراره النفيسة. ومن المعروف عن الجنرال مشرف داخل الجيش، أنه رجل لا يأبه كثيرا بالتفاصيل، ولا يستمع جيدا لما يقوله الآخرون، ويقوم بتضخيم قدراته الذاتية، ويفرط في الحديث عنها. كل هذا يجعل من علاقة أميركا وارتباطها به مسألة ذات خطورة متزايدة.
ومن المعروف أن واشنطن قد وقفت حتى الآن إلى جانب الجنرال مشرف، الذي يعتبر حليفا محوريا في الحملة التي تشنها ضد الإرهاب. وبقيامها بذلك، فإنها قد راهنت على رجل يمكن أن يقال عنه - في أحسن الأحوال- إنه سليم الطوية، ربما لم يكن يدري بما يدور حوله، كما يقول. على أي حال فإن السياسة الحالية لواشنطن هي قبول الجنرال مشرف على علاته، مع الاستمرار في ضخ المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى دولته المثيرة للمتاعب.
ولكن إذا ما وضعنا في اعتبارنا حقيقة أن خان لا يزال محافظا على شعبيته، وأنه قام بما قام به في ظل حكومة مدنية، فإنه سيكون من الغباء أن نقوم من جانبنا بالضغط على باكستان للعودة إلى النظام الديمقراطي الشامل الآن وفورا. فالحقيقة هي أن الجيش بحاجة إلى أن يقوم بالانسحاب بشكل متدرج من المسرح السياسي ومن الحياة المدنية. أما فيما يتعلق بالجنرال مشرف، فإنه بحاجة إلى أن يعلن على الملأ تحمله مسؤولية هذا الفشل التام في المحافظة على الأسرار النووية،