إذا كان للحرب على العراق من نتائج إيجابية على صعيد العلاقات الدولية وهيكل النظام العالمي، ففي مقدمتها ثبوت عدم إمكان الاستغناء عن الأمم المتحدة ودورها. فقد أثارت هذه الحرب سؤالاً كبيراً عن مصير المنظمة الدولية عندما أصرت الولايات المتحدة على تصعيد الأزمة العراقية واستخدام القوة العسكرية على رغم معارضة معظم أعضاء مجلس الأمن. لم تكتف إدارة الرئيس جورج بوش في بداية العام الماضي بتجاوز الأمم المتحدة بل عمدت إلى التقليل من شأنها في سياق التلاسن الذي حدث بين بعض المسؤولين فيها ونظرائهم في بعض الدول الأوروبية، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا.
لم يكن السؤال عن مصير المنظمة الدولية وليد تلك الساعة. فهو مطروح ولكن في نطاق أضيق وعلى مستوى أدنى منذ انتهاء النظام العالمي الذي بزغ بعد الحرب الكبرى الثانية عام 1945. نشأت الأمم المتحدة في ظل ذلك النظام الذي أخذ طابعاً تعددياً لفترة قصيرة أو قل إنها كانت مرحلة انتقالية توارى فيها دورا بريطانيا وفرنسا وراء القوة الأميركية الصاعدة التي اقتسمت مع الاتحاد السوفييتي مركز الصدارة في النظام العالمي الذي اتسم بطابع ثنائي القطبية.
كان السؤال مطروحاً على صعيد نظري منذ أوائل العقد الماضي عن مدى صلاحية الأمم المتحدة لنظام أحادي أصبحت الولايات المتحدة هي القطب الذي يتصدره بمسافة كبيرة عن القوى الدولية الأخرى. وجاءت الأزمة العراقية بمثابة مختبر تظهر فيه الإجابة على هذا السؤال. وكانت المؤشرات الأولى التي خرجت من هذا المختبر تشير إلى أن الأمم المتحدة تتجه إلى فقدان دورها ما دامت القوة العظمى الأولى لا تبالي بها وتعمل خارجها على نحو قد يؤدي إلى الاستغناء عنها.
كان هذا هو الاعتقاد الأكثر رجحاناً عشية الحرب على العراق وبعيدها. وتعجل بعض المراقبين إعلان وفاة الأمم المتحدة والمطالبة بتشييعها. ولم يثنهم عن ذلك اتجاه أميركا المنتصرة عسكرياً إلى العودة إلى مجلس الأمن لكي تعمل قوات التحالف الدولي في العراق ضمن إطاره وعلى أساس من الشرعية الدولية. قرأ القائلون بموت الأمم المتحدة عودة أميركا إليها باعتبارها دليلاً على أن واشنطن فرضت هيمنتها عليها.
غير أن الأمر لم يسر على هذا النحو لأن تفاعلات العالم الراهن أكثر تعقيداً من أن يمكن اختزالها بهذه السهولة أو تبسيطها على النحو الذي نراه في استنتاج أن الأمم المتحدة انتهت بقرار أميركي. ففي عالم تكثر مشكلاته وتتنوع، لا يمكن الاستغناء عن المنظمة الدولية التي تؤدي وظائف في مقدمتها العمل على حفظ السلم والأمن الدوليين والمساعدة في حل النزاعات وتقديم العون بمختلف أشكاله.
وها هي الولايات المتحدة التي بدا لكثيرين أنها استغنت عن دور المنظمة الدولية عندما قررت شن الحرب على العراق تعود لطلب هذا الدور في الوقت الذي تلتزم هذه المنظمة الحذر وتتأنى في التعامل مع الطلب الأميركي. ولا يرتبط هذا الحذر فقط بقرار الأمين العام للأمم المتحدة سحب موظفيها من العراق بعد عملية التفجير التي استهدفت مقرها في بغداد في 29 أغسطس الماضي وراح ضحيتها 22 من هؤلاء الموظفين على رأسهم الراحل سيرجيو فييرا دي ميلو ممثل السيد كوفي عنان.
فلهذا الحادث الخطير أثر عميق بالفعل في تشكيل الحذر الذي تلتزمه الأمم المتحدة الآن. ولكنه ليس المصدر الوحيد لهذا الحذ. فالمصدر الأهم منه هو عدم وضوح طبيعة الدور المنوط بالأمم المتحدة عندما تستأنف دورها في معالجة الأزمة العراقية. فهناك سلطة ائتلاف دولي قائمة الآن تتولى أمور السيادة وفق القانون الدولي الذي يعطي هذه السلطة صلاحيات إدارة البلد الخاضع لها ويحاسبها على ذلك حتى يستعيد هذا البلد استقلاله.
ولم يكن ممكناً أن تمارس الأمم المتحدة دوراً في العراق إلا في ظل تحديد بل تعريف واضح لماهية هذا الدور. أما وقد تم إقرار صيغة لإنهاء سلطة الائتلاف ونقل السلطة إلى الشعب العراقي وفق جدول زمني وعلى مرحلتين تنتهي الأولى منهما في 30 يونيو القادم والأخرى في نهاية 2005، فقد أصبح ممكناً الحديث عن دور الأمم المتحدة. كما صار في استطاعة المنظمة الدولية أن تمارس ضغطاً على الولايات المتحدة وبريطانيا سعياً إلى أن يكون هذا الدور مركزياً وليس هامشياً. وقد عبر كوفي عنان عن هذا المطلب في وضوح تام في كلمة ألقاها أمام جلسة علنية لمجلس الأمن في 16 ديسمبر الماضي بقوله: إننا في حاجة إلى وضوح أعظم بشأن ما يتوقعه العراقيون وسلطة الائتلاف من الأمم المتحدة خلال العملية الانتقالية في العراق. ولم يكتف عنان بما يمكن أن نعتبره طبائع الأمور التي تفترض أن يكون دور الأمم المتحدة واضحاً عندما تتولى مهمات في أي بلد، خصوصاً إذا كانت مهماتها كبيرة. فقد ربط إصراره على وضوح الدور بالمخاطر العظيمة التي تواجه موظفي الأمم المتحدة في وضع مضطرب غير آمن. ولذلك تحدث في الكلمة نفسها عن صعوبة اتخاذ قرار العودة إلى العراق بعد ما حدث لموظفي الأمم المتحدة، الأمر الذي يقتضي أن يكون الدور الذي ستعود من أجله مستحقاً المخاطرة التي تتك