منذ بضعة أيام، في مؤتمر في برلين، طلب مني التحدث عن نوع التربية المطلوبة للتعايش مع الآخرين. وعلى رغم أن اليونسكو قد تنبهت لهذا الموضوع منــذ عشر سنوات واعتبرت شعار "تعلم للعيش مع الآخرين" أحد الأعمدة الأربعة المطلوبة في أي نظام تربوي (الأعمدة الثلاثة الأخرى هي "تعلم لتعرف" "تعلم لتعمل"، و"تعلم لتكون"). إلاً أن الموضوع أخذ أقصى أبعاده وأهميته منذ أحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن. كان من رأيي أنه، سواء بالنسبة لجماعات في مؤسسة أو دولة أو بالنسبة للدول في المسرح الدولي، يتعين توفر ثلاثة شروط من أجل التعايش بتناغم أو سلام.
الأول يتمثل في أن يكون الحوار فيما بين الأفراد أو الجماعات أو الدول حوار الند للند، أي حواراً بين متساوين، وأن يعلو الحوار فوق أية تعصبات أو أية أفكار مسبقة عن الآخر.
الثاني يتمثل في الاستعداد لممارسة التسامح مع الآخر وقبول الآراء المضادة، بشرط التجنب الصارم لأن يتدهور ذلك التسامح إلى علاقات مهينة بين متسامح يعتقد أنه الأعلى والأفضل وآخر تفرض عليه المكانة الأدنى ويشار إليه بأصابع الاتهام والريبة.
الثالث يتمثل في أن تكون العدالة وموازينها الصارمة هي الحكم الذي يحتكم إليه في النقاش وفي الوصول إلى نتائج يقبلها الجميع.
فقط عندما تتوفر تلك الشروط يمكن للحوار، ومن ثم التعايش، أن يكون مثمراً ومستمراً وأن يبتعد عن أن يصبح عبارة عن علاقات عامة ينخرها الخداع وحيل كسب الوقت استعداداً للمعركة القادمة. وإذا توفرت تلك الشروط فهل تستطيع التربية أن تساهم في بناء عالم يتعايش فيه الناس بسلام وبتفاهم معقول؟ الجواب هو نعم، ولكن أيضاً بشروط . فمثلاً هل يستطيع الأفراد أو تستطيع الجماعات التفاهم والتعايش إذا كان غياب العدالة هو السائد سواء أكان في توزيع ثروة المجتمع أم في المكانة الاجتماعية أم بالنسبة لتساوي الفرص في الحياة السياسية؟ أو مثلاً، هل تستطيع الدول أن تتعايش بسلام وانسجام بوجود هوة واسعة في مستوى المعيشة تسمح للبعض أن يعيشوا عيش الترف المرذول وتبقي الآخرين في مستنقع الفقر والتخلف؟
في أيامنا هذه تدٌّعي أميركا أنها تنشد التعايش مع شعوبنا وحضارتنا. لكن ما إن يبدأ النقاش حتى تظهر الخطوط الحمراء في كل مكان . "فإسرائيل" يجب ألا تنتقد، والفلسطينيون يجب أن يخففوا من مقاومتهم، والأمر الواقع هو الحكم والميزان وليس المبادئ الأخلاقية والعدالة سواء بالنسبة لما جرى في العراق أو أفغانستان أو بالنسبة لمعتقلي جوانتانامو. إن الأميركيين معنيون بشيء واحد: أكل وقبول وهضم وجهة نظرهم كأي هامبورجر في مطعم أميركي.
في تعامل السلطات العربية مع المعارضة أو المجتمع المدني تسود الصيغة السابقة ذاتها. ولذلك ينقلب الحوار إلى حوار الطرشان والتسامح إلى نوع من التربّص، والعدالة إلى مٍنّّّّّّّّّّة وأذى.
تستطيع المدرسة أن تغيّر الفرد ليصبح متسامحاً وليعرف ممارسة الديمقراطية وليقبل بالرأي الآخر، لكن ماذا تستطيع المدرسة فعله إزاء علاقات مبنيّة على القهر والازدراء والنّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّهب على المستويين الدولي والوطني؟ وهل يمكن التعايش في ظروف كهذه؟