مبلغ المليار دولار لإعادة بناء الجامعات والبحث العلمي في العراق المذكور أعلاه يحتاج إلى تصحيح. فالمبلغ المقترح في مؤتمر ما تُسمى الدول المانحة للعراق، الذي عُقد في مدريد في أعقاب الحرب مباشرة بلغ ملياراً و210 ملايين دولار. ونصّ الاقتراح، الذي تحدد تنفيذه خلال ما بين 3 و5 سنوات على تخصيص 270 مليون دولار لإعادة بناء الهياكل الارتكازية للجامعات، و200 مليون دولار لإصلاح المناهج والمواد الدراسية، و50 مليون دولار للمساعدة في بناء كليات خاصة لتدريس إدارة الأعمال وإعداد المديرين التنفيذيين. وخُصص القسم الأكبر من المشروع وقدره 690 مليون دولار لما سُميّ "إحياء الحياة الفكرية للجامعات العراقية والوصول بكلياتها وطلابها إلى مستوى دولي مرموق".
مشروع مدريد ما زال حبراً على ورق. أوضحت ذلك تقارير رؤساء وعمداء سبع جامعات عراقية ساهموا في الندوة الدولية للتعليم العالي في العراق، التي عُقدت أخيراً في العاصمة البريطانية لندن. اطّلعت الندوة على وثائق وصور فيديو تحطم القلب عن الدمار الذي أحدثه الحظر والحرب والنهب في جامعات كانت تعدّ أغنى وأعرق مؤسسات التعليم العالي في المنطقة. وتعرف المساهمون في الندوة، التي عُقدت في مقر جامعة ويستمنستر في لندن على أداء أكاديمي يجعل القلب صخراً كالجلمود تميزت به مداخلات قادة جامعات بغداد والبصرة والموصل والكوفة والأنبار وبابل والقادسية. المطالعة الافتتاحية لرئيس جامعة بغداد موسى جواد الموسوي نبّهت الحضور إلى أن الحرب وأعمال النهب والتخريب التي أعقبتها دمّرت 70 في المئة من الهياكل الارتكازية للتعليم العالي في العراق الذي يتكون من 22 جامعة و9 كليات تكنولوجية و27 معهداً تكنيكيا عالياً و11 جامعة خاصة و400 ألف طالب جامعي و16 ألفاً من أساتذة الجامعة ومدرسيها وكوادرها العلمية.
هذه هي حصيلة سنة أولى احتلال استهلتها واشنطن بسلوكها الخليع، الذي يقول عنه كاتب أميركي إنها تقتل الناس ثم تنشئ صناديق استثمارية من تبرعات الآخرين لمساعدة الضحايا. صور مريعة للدمار الذي حلّ بالبصرة الفيحاء، كما يسميها العراقيون عرضها محمد الأسدي، عميد كلية العلوم في جامعة البصرة، الذي بذل جهده للحديث بلهجة رجل أعمال عن فرص علمية ثمينة تقدمها البصرة وجامعتها للباحثين في آثار الحروب والقنابل الانشطارية وقذائف اليورانيوم على صحة السكان والبيئة. واكتفى نزار قبع، نائب رئيس جامعة الموصل وعميد كلية الطب بعرض مبتسر للكوارث، التي أحدثها الحظر والحرب والتخريب، مؤكداً عدم حاجة جامعة الموصل إلى من يعيد إعمار منشآتها. هذه المهمة أنجزها الموصليون بعد شهرين من توقف العمليات الحربية، وكل ما يتمنونه الآن إعادة فتح أبواب التعاون والمشاركة مع المجتمع الأكاديمي البريطاني والدولي. عام 1989 شهد آخر زيارات أكاديمية سمحت بها بريطانيا لأساتذة جامعة الموصل. كان عددها 25 زيارة توزعت على علوم الطب والهندسة والكومبيوتر، وتحمّلت نفقاتها جامعة الموصل. بعد حرب عام 1990 لم يسأل المجتمع الأكاديمي البريطاني حتى عن أسباب كارثة وفاة نصف مليون طفل في العراق، حسب شهادة منظمات الأمم المتحدة.
رئيس الجلسة العامة في الندوة، علي الصائغ، مدير المركز الدولي للطاقة البديلة في بريطانيا سارع إلى إطفاء شرارة كهربائية سرت في قاعة جامعة ويستمنستر إثر دعوة عبد الإله المعيني، أستاذ الهندسة الإلكترونية في جامعة "نابيير" في أدنبره إلى محاكمة المسؤولين البريطانيين والأميركيين عن نظام الحظر، الذي فتك بهؤلاء الأطفال. وعندما هاجم عراقي مغترب يعمل مع سلطات الاحتلال مستوى البحث العلمي في العراق وشكك بصدقية الباحثين اكتفى نائب رئيس جامعة الموصل بالتساؤل بلهجة محايدة يتقنها الأكاديميون، فيما إذا كان الموضوع المطروح للنقاش هو مستوى ونوعية البحث العلمي؟.. ابتسم الأكاديميون البريطانيون، الذين اعتادوا على اتهامات مماثلة يوجهها سياسيون يبحثون عن أعذار لذبح موازنات البحث العلمي. ولطّفت الجو أستاذة هندسة الكومبيوتر منى حمدي بذكرياتها الظريفة عن كائنات آلية "روبوتات" طوّرها في الثمانينيات مركز البحوث الإلكترونية في مجلس البحث العلمي العراقي، بإشراف منذر نعمان بكر التكريتي، عضو المجمع العلمي العراقي حالياً.
واطّلعت الندوة، التي حضرها روساء وعمداء جامعتي ويستمنستر وسَرْي وممثلون عن صناديق التمويل الدولية والمؤسسات غير الحكومية على ما أنزلته الحرب وأعمال التخريب بالهياكل الارتكازية للتعليم العالي في العراق. 20 كلية من كليات جامعة بغداد، التي تضم نحو 70 ألف طالب. دُمّرت بالكامل وأصبحت غير قابلة للتدريس، فيما تعرضت 15 كلية أخرى إلى دمار جزئي، ولم يبق أثر لمعظم معاهد جامعة بغداد للدراسات العليا ومختبرات ومراكز البحوث، التي تضم نحو 8 آلاف طالب دكتوراه وماجستير. واستمع المجتمع الأكاديمي البريطاني لأول مرة إلى شهادات أساتذة ومدرسي الجامعة في العراق عن طبيعة عملهم الذي يتضمن إلى جانب أعباء التدريس والبحث تأمين سير