"مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي أعلنت الولايات المتحدة طرحه على مجموعة الدول الثماني (الصناعية) في يونيو القادم يمثل انعطافة مهمة وخطيرة في السياسة الأميركية والدولية تجاه المنطقة العربية. جغرافيا المشروع تتجاوز المنطقة العربية لتضم إليها أيضا إيران وباكستان وتركيا وأفغانستان وإسرائيل. وهو خلط غير بريء أساساً، وابتداع جديد في تحديد الجغرافيا السياسية للمنطقة. أما استراتيجيا المشروع، أي نقطة انطلاقه الأساسية، فتقول إن هذه المنطقة حبلى بالأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية التي سوف تشكل أخطارا وتهديدات كبيرة على المصالح الأميركية تحديدا، والغربية عموماً، بما لا يدع مجالا لتركها لأصحابها الذين فشلوا في إدارتها. فمخاطر النمو الديموغرافي الكبير، بما ينتج عنه من معدلات بطالة كبيرة، تليها هجرات واسعة إلى الغرب، ومخاطر التطرف الديني، وانتشار الفقر، واتساع نطاق الأمية، بالإضافة إلى عيوب ونواقص كبيرة أخرى، تعني أن جنوب المتوسط وشرقه سوف يظلان منطقة تصدير الأزمات نحو العالم، وهي نفس نظرية قوس الأزمات المعروفة التي كانت تشمل العالم الإسلامي برمته وتبدأ من باكستان وأفغانستان وتمر في العالم العربي وآسيا الوسطى لتنتهي في المغرب العربي. يعتمد المشروع في توصيفه لكل الفشل الذي تواجهه المنطقة إلى ما رصده تقريرا التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002 و2003، وتحديدا النواقص الثلاثة: النقص في الحرية، والنقص في المعرفة، والنقص في تمكين المرأة. ويتشبث المشروع بالتحليل الذي قدمه هذان التقريران بشكل أرثوذكسي، وكأن كل ما جاء فيهما لا جدال فيه. واعتمادا على أن الفريق البحثي الذي كتب وأشرف على التقريرين مكون من باحثين وأكاديمين عرب، فقد استمرأ "مشروع دمقرطة الشرق الأوسط الكبير" الاستشهاد بالتقريرين وخلاصاتهما بشكل مبالغ فيه ومبتذل، مكررا لازمة أن هذا ما يقوله ويراه المثقفون العرب إزاء توصيف الحالة العربية. ومن دون أن نعرف كيف ينطبق تحليل التقريرالأول المكرس لدراسة البلدان العربية على بلدان مثل تركيا، وأفغانستان، وباكستان، فضلا عن إسرائيل، فإن ما هو أهم من ذلك أن "المشروع" المذكور أغفل تماما ما ذكره التقرير الثاني على وجه التحديد إزاء أثر العوامل الخارجية وسياسات الهيمنة على إحباط أي تطور وتنمية كانت تحلم بهما المنطقة العربية. بموازاة ذلك، لم يشر صائغو التقرير (الذي يعكس رؤية المحافظين الجدد للمنطقة العربية) لا من قريب أو بعيد إلى أثر إسرائيل على تدهور الحالة العربية، إن حقيقة أو تسويغا، وسواء أكان ذلك عبر امتصاص جهد وثروات المنطقة في بناء الجيوش، أو من خلال الانهاك المستمر لها من خلال الحروب العدوانية الإسرائيلية المتواصلة.
والحقيقة التي لابد من الإقرار بها هي أن تقرير التنمية الإنسانية الأول، لعام 2002، ومن خلال إغفاله التركيز على "النقص الرابع" في سياق توصيف حالة التخلف العربي، وهو النقص في السيادة على القرار السياسي، أو النقص في الاستقلال الكامل، وما يعنيه من سيطرة سياسات التبعية للدول الكبر، وهيمنة هذه الدول على القرار العربي، قد وفر فرصة كبيرة لكل من يريد الاصطياد في الماء العكر، كما يحدث الآن مع المشروع الأميركي الجديد. النواقص التي ذكرها التقرير الأول، وبنى على أساسها التقرير الثاني، أي النقص في الحرية، والنقص في المعرفة، والنقص في تمكين المرأة، كلها صحيحة، لكنها ناقصة في توصيف كامل الصورة. وهذا النقص ترك ثغرة كبيرة لكل من يريد أن يتغافل عن الأثر الحاسم والرئيسي للعامل الخارجي في توجيه ما آلت إليه منطقتنا. فالحقيقة التاريخية ومن دون أية سجالية لا داعي لها تقول إن هذه المنطقة وعلى مدار قرنين متواصلين عانت وما تزال تعاني من أسوأ أنواع التدخل الأجنبي والاستعمار الغربي المباشر وغير المباشر. وإن كانت مناطق أخرى في العالم قد عانت الشيء نفسه، فإن تلك المناطق تحررت بنسبة أكبر بكثير من نسبة التحرر التي حظي بها العرب في حقبة ما بعد الاستعمار المباشر. فهناك أسباب ومصالح كبرى جعلت هذا الاستعمار يترك أقدامه ثقيلة الوطأة في المنطقة، وإن غاب رأسه المباشر. فإنشاء الدولة العبرية، والثروات النفطية عاملان لم يتواجدا في أي مكان آخر في العالم، وهما عاملان تقوم من أجلهما حروب عالميةن أي أنه لا يمكن النظر إليهما ببساطة كعاملين من قائمة عوامل أخرى.
كانت المصالح البريطانية الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وجهود المحافظة عليها، عسكريا واقتصاديا، تتم على حساب شعوب المنطقة ومستقبل تطورها، وساهمت في تعطيل أية مسيرة طبيعية لها. أثر ذلك يظهر ليس فقط على توجهات الفكر السياسي العربي والمسارات التي أتخذها، بل وأهم من ذلك على آليات التطور الاجتماعي السياسي نفسه، وتقع في القمة منه آليات الحكم وأنماطه التي نشأت برعاية المستعمر نفسه. ثم جاءت المصالح الأميركية في النصف الثاني من القرن نفسه، وحتى الآن، مضافا إليها إنشاء إسرائيل بال