يعود رهط من الباحثين والمفكرين والكتاب العرب راهناً وتحت وطأة التصدع العربي الآخذ مداه عمقاً وسطحاً، إلى سؤال النهضة عموماً و"العربية" على نحو خاص. فهذا التصدع الذي يترافق بخنوع مذهل من قبِل النظم السياسية العربية أمام عملية تفكيك العالم العربي من طرف، يلتقي مع مكابرة هذه النظم في رفضها الاستجابة لشعوبها ولذوي الحكمة من "الخبراء والمستشارين"، في إقصاء السؤال الكبير التالي وتهميشه وعدم السماح بإدخاله في الوعي العربي والإسلامي من طرف آخر: لماذا لا تشرعون أنتم في فتح ملف الوطن من الداخل، بدلاً من أن يقوم بذلك القادمون من وراء البحار؟ لماذا تصرون على الإبقاء على مجموعة من القوانين والإجراءات باسم "العدو الخارجي"، من نمط قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، "بعد" أن اتضح أنها وظِّفت تخصيصاً لإنتاج أنماط من "الثقافة" المضادة لحقوق الإنسان، وللجمه عن الدفاع عن حريته وكرامته وكفايته المادية؟
لقد أنتجت تلك الأنماط الثقافية (مثل ثقافة العنف وثقافة الرعب وثقافة الفساد... إلخ) شكوكاً جديدة -إضافة إلى القديمة التي قدمها مستشرقون وعرب- في إمكانية النهوض العربي بعد انحطاط، وفي احتمال فتح مداخل وأبواب جديدة تقود إلى هذه الإمكانية. لقد جاء الأميركيون إلى العراق لـ"يحرروا شعبه ولينشروا الديمقراطية والعدالة في أرجائه"، بعد أن عجز هذا الشعب عن قيامه هو بذلك! إن هذا الخطاب السياسي المراوغ والمنافق يحاول أن يؤسس مجدداً لما حاول التأسيس له قائد عسكري دخل بجيوشه الغازية إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وهو بونابرت الفرنسي: العرب أقل من أن يتصدوا لمهمات نهوضهم وتحديثهم وتقدمهم، وهم -من ثم- بحاجة مبدئية، بالإعتبار التاريخي، إلى من يقوم لهم بذلك بـ"تفويض وبدونه".
إن ذلك الخطاب السياسي بتعبيريه البونابرتي والبوشي إن هو إلا أحد أوجه الإيديولوجيا الغربية الاستعمارية الاستيطانية في العالم العربي، كما في مناطق أخرى من المعمورة· لكن هذا الخطاب انطوى على مفارقة منطقية ومنهجية مثيرة وخطيرة وضع المفكرُ المغربي الحبابي يده عليها، حين طرح السؤال الإحكامي التالي: كيف لنا أن نقرر أن بداية الاستعمار (الفرنسي البونابرتي) إنما كانت باكورة التحديث في المجتمع العربي الحديث؟ وقد كان للباحث اللبناني ألبرت حوراني دور نظري متين في الدفاع عن أن غزو الفرنسيين لمصر كان بمثابة تأسيس لـ"صدمة الحداثة". وملفت أن كتاب حوراني، الذي قدمه بعنوان "الفكر العربي في عصر النهضة"، لقي انتشاراً ملحوظاً وقبولاً في أوساط ليست قليلة من الباحثين والدارسين والمثقفين والسياسيين.
وكان من الملفت والمثير حقاً أن يأتي أحد أشكال النقد التاريخي الدقيق -بدرجة ملحوظة- لفكرة " صدمة الحداثة " المذكورة من موقع واحد من المستشرقين الأميركيين، وهو (بيتر جران). وقد قدم هذا المستشرق بحثه في ذلك تحت عنوان "الجذور الإسلامية للرأسمالية"، وتناول فيه بالتقصّي النصفَ الثاني من القرن الثامن عشر الهجري في مصر. وأتى ذلك في سياق دراسة شخصيةٍ أزهرية مرموقة في حينه، هي الشيخ حسن العطار. أما الفكرة المركزية التي انتهى إليها الباحث في عمله فقد قامت على القول إنه نشأت في مصر رأسمالية ذات طابع تجاري احتوت دفعاً ملحوظاً باتجاه نهضة على صعيد الفكر الديني ظهرت -خصوصاً- فيما كان الأزهر يقدمه من مواد تدريسية، وكذلك على صعيد الثقافة العامة في مصر، في حينه.
وعبر عودة إلى المفارقة، التي أشار إليها الحبابي، نلاحظ أن بيتر جران قاد المسألة إلى صيغة حادة من تلك المفارقة تتمثل في الأطروحة التالية: إن غزو نابليون لمصر لا يمكن أن نفهمه فقط بمثابة إحجام عن تحديثها، وإنما هو كان كذلك اختراقاً لحالة تحديثية نهضوية كانت تأخذ مداها في مصر نفسها، وتفكيكاً لها. ومن ثم، فإن حديثاً يغدو ممكناً عن أن غزاة من هنا وهناك في الغرب لن يكون بوسعهم القيام بمشروع وطني أو قومي عربي في النهوض والتحديث والتنوير، لأنهم -بوصفهم حملة مشروع استعماري- لا يحتملون تلك المهمة، التي تبقى في حوزة الشعب المغزو ومفكريه وعلمائه وسياسييه.
إن ضرورة العودة إلى سؤال النهضة والتحديث والتنوير في الفكر العربي الراهن، تكتسب الآن أهمية تاريخية وطنية وقومية، إضافة إلى كونها ذات أهمية أكاديمية.