أطلق محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذّرية، ولمرتين هذا الشهر، جرس الإنذار من الأخطار المميتة الناجمة عن الانتشار النووي. وقد صدر الإنذار الأول عن البرادعي في مقال نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" في عددها الصادر يوم 3 فبراير، وهو بقلم السيد البرادعي وعالم الفيزياء النووية جوزف روتبلات الفائز بجائزة نوبل. وقد تطرّق البرادعي وروتبلات في المقال المذكور إلى الأوضاع في الشرق الأوسط.
وورد في المقال المذكور أن "الأوضاع في الشرق الأوسط غير قابلة للاستدامة والسيطرة. فإذا لم نفعل حيال ذلك شيئاً، فإن الكارثة محققة، وإن وقوعها ليس أكثر من مسألة وقت".
ويقول البرادعي وروتبلات في مقالهما ذاك إن الغاية من وجود شرق أوسط خال من الأسلحة النووية ما زال حتى اليوم أمراً بعيداً عن التحقيق كما كان دوماً في الماضي، لأن إسرائيل ترفض مناقشة مسألة ترسانتها النووية والانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT). ويؤدي ذلك الرفض إلى خلق إحساس عام بانعدام الأمن الذي يشجع بدوره الدول العربية على تسليح نفسها بأسلحة مماثلة، سواءٌ أكانت أسلحة نووية أم بيولوجية أم كيميائية. ويستنتج البرادعي وروتبلات أن من غير الممكن أن يكون هناك سلام حقيقي في الشرق الأوسط في غياب منهج شامل إلى تحقيق الأمن، بما في ذلك فرض حظر شامل على كل أسلحة التدمير الشامل.
وفي إشارة واضحة إلى إسرائيل، يعلن البرادعي وروتبلات أن "أية محاولة لتحقيق الأمن لبلد ما على حساب انعدام أمن البلدان الأخرى، ستكون محكومة بالاخفاق".
وقد أطلق البرادعي صيحة إنذاره الثانية بمقال ثان نشرته صحيفة "إنترناشيونال هيرالد تريبيون" في عددها الصادر يوم 13 فبراير الجاري، وفيه يعلن البرادعي قائلاً: "إذا لم يغير العالم مساره، فإننا نخاطر بالانخراط في عملية تدمير ذاتي".
ويقدم البرادعي هنا عدداً من المقترحات. فهو يريد أن يمنح الوكالة الدولية للطاقة الذرية حقوق التفتيش في كل البلدان دون استثناء، وهو ينادي أيضاً بـ"خريطة طريق واضحة من أجل نزع للأسلحة النووية تكون بدايته بتقليص رئيسي في عدد الرؤوس الحربية النووية الذي وصل الآن إلى 30 ألفاً". وفي هجوم عنيف على القوى النووية الحالية، يعلن البرادعي قائلاً: " لا بد لنا من التخلي عن المبدأ غير الناجح الذي يعتبر أن سعي بعض البلدان، إلى امتلاك أسلحة التدمير الشامل، أمر يستوجب الشجب المعنوي والأخلاقي، في حين يكون من الأمور المقبولة معنوياً وأخلاقياً أن تعتمد عليها بلدان أخرى في حماية أمنها...".
ومن النواحي البارزة التي تميّز مناشدة البرادعي أنها أتت في وقت ربما يحقّ فيه للعالم أن يهنئ نفسه على عدد من حالات النجاح التي حققها في معركته ضد أسلحة التدمير الشامل. ذلك باعتبار أن إيران وقّعت على ما يدعى بالبروتوكول الإضافي الملحق بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والذي يتيح للوكالة الدولية إجراء عمليات التفتيش المفاجئ غير المعلن في المواقع النووية الإيرانية. وإضافة إلى ذلك تخلت ليبيا عن طموحاتها النووية. وقد تم أيضاً اكتشاف وتفكيك شبكة واسعة غير شرعية متخصصة في الإتجار بالمواد النووية ومخططات الأسلحة والمعدات النووية، وتتخذ من باكستان مقراً لها. وقدّم الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مقترحات ذات انعكاسات وتأثيرات واسعة النطاق لتشديد الإجراءات المعنية بالتجارة الدولية بالمواد المحظورة. فلماذا إذاً لا يشعر البرادعي بالرضا بعد هذا كله؟ لذلك أسباب ثلاثة، وأولها أن السيد البرادعي يدرك أن النظام الدولي المعني يعاني من عيوب وصدوع خطيرة وكبيرة تعتري أيضاً السياسات المتبعة في الدول النووية الرئيسية، والتي لم يتم حتى الآن التطرق إليها. ومن تلك العيوب أن الولايات المتحدة لا تعتزم إجراء أي تقليص في حجم ترسانتها النووية الهائلة. لا بل إنها تواصل على النقيض من ذلك توسيع مقدراتها النووية ورفع مستوى فاعليتها، ولا سيّما بتصنيع ما يدعى بالأسلحة النووية المصغّرة، وهي المصممة لمهاجمة وتدمير التحصينات والدُّشم المعادية المدفونة عميقاً تحت سطح الأرض.
ثانياً، تتعامى الولايات المتحدة منذ عقد الستينيات عن برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي. أماّ الحجّة التي يجري استخدامها عموماً لتبرير هذا الموقف فإنها تقول ما معناه أن إسرائيل باتت في الشرق الأوسط البلدَ الوحيدَ الذي ما زال يواجه خطر الفناء والتدمير على يد أعدائه. غير أن تلك حجة صارت باطلة وانتهت صلاحيتها منذ أيام الحرب التي اندلعت بين عامي 1947-1948. فإسرائيل برهنت، وما تزال تبرهن، على أنها أقوى من أية مجموعة من الدول العربية مهما كان حجمها.
وقد يقول المرء هنا في معرض الردّ على ذلك إن البلدان العربية والمجتمعات العربية، على النقيض من ذلك، هي التي تواجه خطر الفناء والتدمير على يد إسرائيل، وإن الفلسطينيين بالطبع هم الذين يواجهون أشد درجات ذلك الخطر دون غيرهم من العرب. غير أن ذلك ليس صحيحاً: فالفلسطينيون ليسوا الوحيدين ا