تثير ذكريات البعثي العتيد حازم جواد والمسلسلة في جريدة "الحياة" الشجون حول تجربة العراق وتتجاوز هذه الصفحات المأساوية السوداء هذا القطر المنكوب لتقلب المواجع حول تجربة أوسع وأعرض ألا وهي تجربة العالم العربي مع النظم الثورية. وحازم جواد من قادة الانقلاب البعثي على عبدالكريم قاسم وأحد فرسان البعث في أحد فصول هذا الحزب المأساوية والتي كان من خلالها يبحث البعث عن نجاح أو إنجاز أو ترابط فكري، ولا ينجح إلا في ترك إرث من قصص السحل ومآسي السجون والمعتقلات وصراع الرفاق يأكل فيه السمك الكبير السمك الصغير، وفوق ذلك كله خواء فكري أعمق ما فيه شعارات لا تجد طريقها للتطبيق.·
ومن خلال قراءة هذه الذكريات نجد أن النظم العربية الثورية فشلت الفشل الذريع لأنها لم تَبنِ المؤسسات التي تجذّر للعمل السياسي وتجعله عملاً مؤسسياً يتجاوز الأشخاص وتأثيرهم، وبدون هذه المؤسسات سرعان ما أصبحت الأفكار الضبابية والأحلام الصبيانية للعديد من الضباط والشباب المتحمس أرضية للطموح الشخصي لقادة لا يحملون صفات القيادة ومؤهلاتها. واستعراض قائمة قادة العراق دليل على ما نورده، فمن عبدالكريم قاسم إلى عبدالسلام عارف إلى عبدالرحمن عارف إلى أحمد حسن البكر إلى صدام حسين التكريتي لا يوجد من هؤلاء، والذين تحكموا بمقدرات العراق وتطوره السياسي، من يحمل صفات القيادة والفكر المستنير وإمكانيات رجل الدولة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. والنتيجة هذا الخراب السياسي والاقتصادي الذي نراه أمامنا. ومن خلال سرد حازم جواد نجد أن البعث وحلفاءه القوميين منشغلون بمعاركهم الشخصية مع الشيوعيين وبالانتقام من رموز النظام الذي سبقهم، ولا نجد في أشخاص مثل صالح مهدي عماش أو علي صالح السعدي أو حردان التكريتي الثقافة أو البعد الفكري للتأسيس لدولة مؤسسات تنجح في خلق منهجية تنمية سياسية واقتصادية تطور التجربة الثورية. هذا إن كان بإمكاننا أن نسمي التجارب العربية تجارب ثورية أم نضعها في خانتها الصحيحة ألا وهي نزوات ضباط وطموحاتهم وتجربة حزبية ضيقة وصبيانية عاثت الفساد في العديد من الدول العربية.
وهذا الذي نقرؤه من حازم جواد وغيره ليس تاريخاً للأسف بل هو حاضر نعيشه في العديد من الدول العربية حيث تكلست التجربة الصبيانية وأخذت منحى رجعياً يزايد على تجربة الملكيات الوراثية والتي طالما سعت هذه الجمهوريات الثورية إلى تقويض أسسها. فالبرنامج السياسي تحول إلى توريث الحكم إلى أبناء الزعيم الثوري وأما التجربة الاشتراكية والتي لم تنجح أصلاً فهي محتارة بين احتكار أسرة الزعيم وجماعته على الاقتصاد وتتطلع لتبني شكل من أشكال الاقتصاد الحر. وأما الانفتاح على أميركا والغرب فهو في مراحل مختلفة بعضها متقدم وبعضها في المطبخ تتم التهيئة له من قبل خليط غريب من الوسطاء بدأ يتقن فنون هذه اللعبة. وحين نزيل الشحوم والدهون ندرك أن التجربة الثورية العربية اختزلت نفسها واختزلها قادتها لأساسيات التمسك بالكرسي والاستمرار في السلطة. فهذه التجارب لم تَبنِ تقاليد مؤسسات ونظم مؤسسات ومنهجية مؤسسات، ولم تنضج على طريق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، بل استمرت في مزايداتها ومناوراتها لا تسمع إلا صداها ولا تدرك أنها لابد لها وأن تتطور لتساير عالماً متغيراً متقلباً. ولأنها أفلست ذلك الإفلاس الكبير والرهيب فلابد لهذه الصفحة أن تطوى ولابد لهذه النظم أن ترحل. فلا خلاص ولا مستقبل لعالمنا العربي باستمرار هذه التجارب الخاوية، والبديل يكمن في تبني التطور المؤسسي والمنهج الديمقراطي التعددي.