كلما اعترى الأشياء المزيد من التغيير، طال أمد بقائها. وقد باتت القوة المحركة في العلاقة الفلسطينية-الإسرائيلية-الأميركية شبيهة بالعلاقة الفلسطينية-الصهيونية-البريطانية في العشرينيات، حين جاهر الصهاينة بعزمهم على استغلال الانتداب البريطاني للاستعداد لتأسيس دولتهم المستقبلية، ولذا استقطبوا إلى فلسطين عشرات الآلاف من المستوطنين اليهود، واستولوا على الأرض العربية وبنوا المستوطنات واستحدثوا البنية التحتية لدولة تنبت ضمن دولة الانتداب.
ولم يكن لدى عرب فلسطين آنذاك ردّ متماسك ومنطقي على ذلك التهديد المتعاظم، فعقدوا المؤتمرات وقاموا بإقرار القرارات رافعين حجةً مفادها أن الانتداب ووعد بلفور لا يستندان إلى أساس شرعي. ومع تنامي الضغط بفعل الهجرة الصهيونية والاستيلاء على الأرض، تظاهر العرب واحتجوا وانخرطوا في أعمال الشغب، ثم انهزموا أمام القوة الساحقة.
أما البريطانيون فإنهم رأس البلاء، إذ خلقوا المعضلة وأتاحوا نموها وتدهورها، ثم قاموا بدور التحكيم في ما أسموه بـ "المطالبات المتنافسة". وكان عبء الأمر يحاصر البريطانيين أحياناً، لكن قدموا بتصرفهم وإحجامهم عن التصرف أسباب التمكين للمشروع الصهيوني ومنحوه أسباب النجاح.
واليوم، نجد مجموعة قوى دافعة مماثلة وفاعلة، حيث استمر المشروع الاستعماري الإسرائيلي منذ أواخر الستينيات دون أن يكبحه كابح. وفي عقد التسعينيات، عمدت الحكومات الإسرائيلية، بالتناوب بين حزب العمل والليكود، إلى مواصلة ما لا أجد له وصفاً أحسن من عبارة "الاستيلاء الشامل على الأرض". ولذا تضاعف عدد المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتضخمت الكتل الاستيطانية على طول الخط الأخضر وفي الأصابع الاستراتيجية التي تخترق الأرض إلى عمق الضفة الغربية، وكذلك في قطاع كبير من الأراضي المحيطة بالقدس.
وما ينذر بشؤم أكبر أن المفاوضات جرت بين الطرفين في حين كان الاسرائيليون يبنون شبكة الطرق السريعة لربط المستوطنات بإسرائيل، وهو ما يوضح وجود خطة استراتيجية لإبقاء السيطرة الاسرائيلية على هذه التجمعات السكانية المؤلفة من اليهود فقط. وفي غضون ذلك، فقد الفلسطينيون المزيد من الأراضي وتبخر أمام عيونهم حلمهم بإقامة دولة فلسطينية قابلة للاستمرار في الضفة الغربية وغزة.
ومع تجميعهم وحشرهم في الكتل السكنية المعزولة بفعل وجود المستوطنات والطرق الأمنية، تظاهر الفلسطينيون واحتجوا ثم لجأوا إلى ممارسات العنف الرهيبة المفزعة، فردت إسرائيل بتعزيز قبضتها على المستوطنات ببناء جدار عازل وسياج فاصل يلتهمان المزيد من الأراضي الفلسطينية ويحرمان المزيد من الفلسطينيين من أرزاقهم وأحلامهم.
وأتى الرد الفلسطيني الرسمي على هذا كله بإطلاق نداءات الاستغاثة؛ ثم ذهب المسؤولون الفلسطينيون إلى الأمم المتحدة واستصدروا القرارات، ثم ذهبوا إلى محكمة العدل الدولية يسعون إلى استصدار حكم بوقف بناء الجدار.
أمّا الولايات المتحدة، وريثة العباءة البريطانية، فتتصرف وهي محاصرَةٌ تتبرم ضيقاً- كبريطانيا سابقاً، وتعلن بإحباط عن محاولتها المملّة لـ"تحقيق التوازن بين المطالبات المتنافسة"، لكنها، كالبريطانيين سابقاً، باتت مصدر قوة تمكين لإسرائيل بدلاً من أن تكون وسيطاً. وعلى غرار السلوك البريطاني في الثلاثينيات، ألقينا نحن الأميركيين لومنا على القيادة الفلسطينية ثم قمنا بتحييدها وتعامينا عن التحول المادي الجسيم والحقيقي الذي يحدث على الأرض.
لقد أطلق البريطانيون نموذجاً آخر يتكرر اليوم؛ فعندما كان العنف يندلع في فلسطين أيام الانتداب، كانوا يعقدون اللجان التي تتعهد بالإصلاح وتفرض قيوداً على المسعى الصهيوني. لكنهم كثيراً ما كانوا ينكصون أمام الضغط السياسي الداخلي فيسحبون تعهداتهم ويسمحون بتدفق الهجرة اليهودية وباستيلاء الصهاينة على المزيد من الأرض.
وقد سلكت الولايات المتحدة ذلك المنهج ونفذته بحذافيره. وما على المرء إلاّ أن يتذكر خريطة الطريق وتوصيات تقرير ميتشل التي لم تتم تلبية مقتضياتها، إذ كانتا وثيقتين وافتهما المنية فور ولادتهما.
ولذا سيوافق مسؤولو الإدارة الأميركية، لدى اجتماعهم القادم بالقادة الاسرائيليين، على خطة "غزة أوّلاً"، وسيتواصل بناء الجدار على رغم الإدانة الأميركية والعالمية. وإذا أصغينا إلى ما تقوله حكومة شارون، سنعلم أن ما سيتواصل أيضاً هو بناء المستوطنات وتعزيز الكتل الاستيطانية لإسكان المزيد من الإسرائيليين في ما سيصبح أرضاً من الضفة الغربية ملحقة بإسرائيل.
وفي معظم سنوات القرن الماضي، لم تكن هناك أسرار تلف المسعى الاسرائيلي/الصهيوني. ولذا لا ينبغي أن تعتري المفاجأة أحداً حيال اتجاه مسعى الإسرائيليين والصهاينة الطويل الأمد. فمنذ البداية، لم يكن رضاهم بـ "وطن قومي" إلاّ قناعاً يخفي مشروع تأسيس دولة. وقد رفضوا الموافقة على وضع الحدود، على أمل توسيع دولتهم لتشمل كل فلسطين الواقعة تحت سلطة الانتداب. وأظهرت خطة دروبيلز الاستيطانية، التي وضعتها المنظمة ا