من المفارقات الساخرة، أن القائد العربي الذي يحظى بالثناء في الولايات المتحدة وأوروبا حاليا، هو الرئيس الليبي معمر القذافي، الذي سيلتقي عما قريب برئيس الوزراء البريطاني توني بلير، والذي ستؤسس لديه الولايات المتحدة قريبا أيضا وجودا دبلوماسيا في طرابلس. في الوقت نفسه، تقوم ليبيا حاليا بالبحث عن عقار في واشنطن دي. سي كي تقوم بإعادة افتتاح سفارتها هناك. إن سنوات عزلة العقيد القذافي عن المجتمع الدولي قد وصلت إلى نهايتها، لأنه وافق في التاسع عشر من ديسمبر الماضي، على قيام ليبيا بتسليم أسلحة الدمار الشامل الموجودة لديها. والشاهد أن رجال الاستخبارات الأميركية والبريطانية وخبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لم يقوموا فقط بالتفتيش على برامج ومنشآت الأسلحة الليبية، ولكنهم أخذوا معهم مواد لإجراء مزيد من التدقيق عليها، ومن ثم التخلص منها. وتدعي إدارة بوش أن القرار الليبي بالتعاون يمثل انتصارا لها في سياق الحرب التي تخوضها ضد الإرهاب، وضد انتشار الأسلحة المحظورة. وهناك في الوقت الراهن تكهنات بشأن قيام إيران وسوريا بالاحتذاء بليبيا. ومن المعروف أن الدولتين مدرجتان، على قائمة الدول المارقة التي أعدتها الولايات المتحدة، ولديهما من الأسباب ما يجعلهما تنظران بجدية إلى التهديدات الأميركية، بشأن أنشطتهما في مجال أسلحة الدمار الشامل. على رغم ذلك، فإنه من غير المرجح، أن تقوم الدولتان بالاحتذاء بليبيا في القريب العاجل. إن الموقف الذي وجدت فيه ليبيا نفسها كان فريدا. ولقد أثبتت عقوبات الأمم المتحدة، وقانون العقوبات الأميركي المفروض على كل من إيران وليبيا فاعليتهما، في عزل ليبيا وتقليص قدرتها على المحافظة على، وتوسيع، قطاع الطاقة لديها. وفيما ظلت ليبيا قادرة على تصدير النفط والغاز، فإن قدرتها على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وعلى إجراء اتصالات مع بقية العالم، قد تقلصت إلى حد كبير.
إن ما جعل القذافي يقوم بإنهاء برامج أسلحة الدمار الشامل يتمثل في سببين: فعقب الحادي عشر من سبتمبر 2001، كان من الواضح أن الولايات المتحدة ، قد أصبحت مستعدة لاستخدام القوة لمعاقبة هؤلاء الذين يدعمون الإرهاب، أو الذين توجد لديهم برامج سرية لإنتاج أسلحة دمار شامل يمكن أن تشكل تهديدا للولايات المتحدة، وحلفائها. ولابد أن غزو العراق، والقبض على صدام حسين، قد لعبا دورا في تغيير طريقة تفكير القذافي، خصوصا إذا ما وضعنا في اعتبارنا، أنه لا يزال يتذكر الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة عليه عام 1986 كرد فعل على تدمير مرقص "لا بيل" في برلين الذي أسفر عن مصرع جنديين أميركيين. بيد أن المفاوضات الليبية الرامية إلى التوصل لصفقة قد بدأت، وفقا لجميع الروايات، قبل بدء حرب العراق بوقت طويل. والأمر المؤكد في هذا الصدد هو أن قيام بريطانيا بإعادة علاقاتها مؤخرا مع القذافي، قد سهل دون شك من مسألة اشتراك الولايات المتحدة في المفاوضات السرية التي أدت إلى اتفاق التاسع عشر من ديسمبر 2003.
ولم يكن هناك، في أية مرحلة من مراحل المفاوضات، حديث عن "تغيير النظام"، إذا ما كانت ليبيا ترغب في تحسين لعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية. لقد كان الأمر برمته عبارة عن عملية "إعادة بناء ثقة" بالقذافي، كما أنه قد توازى مع توقع آخر مؤداه، أن رفع العقوبات الأميركية عن ليبيا، سوف يؤدي إلى ازدهار الاقتصاد الليبي مرة أخرى. وهذا الأمر يعتبر حيويا، إذا ما أرادت ليبيا اجتذاب الاستثمارات التي طال انتظارها، وإيجاد وظائف لشبابها الذي يعاني من البطالة.
باختصار، كانت هناك مزايا كبيرة ستحققها ليبيا في حالة التماشي مع الرغبات البريطانية والأميركية، والخروج من دائرة أسلحة الدمار الشامل. وفي الحقيقة أن تسليم تلك الأسلحة لم يكن تضحية عسكرية كبيرة من جانب ليبيا. فليبيا لا تواجه تحديات عسكرية من جيرانها، وأخطر التهديدات الأمنية التي تواجهها، تأتي من جانب المنشقين الداخليين، الذين يتلقى بعضهم المساعدة من تنظيم "القاعدة".
على النقيض من ذلك، نجد أن كلاً من سوريا وإيران يواجه تهديدات أمنية خطيرة. فسوريا تقول إن أسلحتها الكيماوية وقوتها الصاروخية تمثل رادعا ضروريا لقدرات إسرائيل النووية. على المنوال نفسه، نجد أن برنامج الصواريخ الإيراني ينظر إليه على أنه يمثل رادعا لجيران إيران بما فيهم إسرائيل. فبرنامج إيران النووي، على رغم أنه لم يكتمل حتى الآن، يمدها بإمكانيات تصنيع قنبلة نووية إذا ما تدهور وضعها الأمني. والقيام بإقناع سوريا أو إيران بالاحتذاء بالقذافي، سوف يتطلب أن تتم تلبية احتياجاتهما الأمنية، كما يتطلب أيضا أن تكون الفوائد الاقتصادية والسياسية التي ستحصلان عليها عقب قيامهما بتسليم قدراتهما الخاصة بإنتاج أسلحة الدمار الشامل، أكبر من الهوان الذي ستتعرضان له إذا ما قامتا بنزع أسلحتهما من جانب واحد. الشروط الخاصة بإبرام تلك الصفقات لا تتوافر حاليا، وهو ما يعني أن ليبيا ستظل بمثابة حالة فريدة الوقت الحاضر، على الأقل ف