العراق هو البلد العربي الوحيد الذي ليس أمامه الآن إلا واحد من خيارين لا ثالث لهما: إما أن يكون دولة ديمقراطية توفّر الأمن والحرية والتعددية للجميع، وإما أن ينزلق نحو حرب أهلية مدمرة. أهل العراق، وهم أدرى به من غيرهم، يدركون هذا المفترق الحاسم. لكن المعطيات التي تأتي من هذا البلد الجريح تنبئ أن هذا الإدراك لا يواكبه، وبشكل مواز، ما يؤشر إلى أن خيار الديمقراطية، والانتقال السلمي نحو حالة من الاستقرار، هو الخيار الأرجح، والسبيل الذي يحظى بالإجماع. هناك حديث تمنيات، لكن معطيات ومؤشرات الوضع السياسي في العراق تحت الاحتلال ترجح بشكل مستمر وتراكمي أن هذا البلد العربي في أحسن الأحوال لن يعرف الاستقرار لفترة طويلة قادمة. وفي أسوئها يبدو أنه ينزلق بشكل بطيء نحو حرب أهلية لا مفر من وقوعها.
أغلبية الشعب العراقي ترفض هذا الخيار. لكن القوى السياسية وقياداتها تبدو غير قادرة على تجاوز الخلافات والاتفاق على الحد الأدنى من المشتركات الكافية لإبعاد شبح هذه الحرب بعد انتقال السلطة إلى هذه القوى. من هنا الخوف من أن تفادي هذه الحرب يتحول مع الوقت إلى هدف بعيد المنال. كثيرون حذروا من ذلك، وآخرهم كان مبعوث الأمم المتحدة، الأخضر الإبراهيمي يوم الجمعة الماضية. في الوقت نفسه يبدو أن هناك من يعتبر خيار الحرب الأهلية أفضل الخيارات المتاحة لتحقيق أهدافه السياسية أو الانتقامية. إزاء ذلك تبدو المنطقة، ومعها العراق، كمن لا يملك إلا انتظار وقوع الكارثة.
ما هي هذه المؤشرات؟ أولا يجب التمعن في حقيقة أن إسقاط النظام العراقي السابق لم يحدث نتيجة تغيير سياسي حصل في الداخل العراقي، بل حصل نتيجة تدخل أميركي مباشر. قد يكشف الزمن أن هذا التدخل، بغض النظر عن أسبابه والأهداف من ورائه، كان الشرارة التي أشعلت كوامن الفتنة والانقسام داخل المجتمع العراقي، وبالتالي مهد الطريق لانفجار هذه الكوامن بشكل عنيف يهدد مستقبل ووحدة العراق. الحقيقة الأخرى، أن كوامن الانقسام كانت أحد الأسباب الرئيسية التي مكنت النظام السابق من البقاء في السلطة من دون مواجهة تحدّ ذي وزن أو مصداقية. فالمعارضة، وطوال حكم النظام السابق، كانت تفتقد إلى قاعدة شعبية في الداخل. والسبب الرئيسي لذلك أن تركيبة هذه المعارضة كانت منقسمة على أسس طائفية وقومية، وتعكس انقسامات الداخل العراقي.
الأسوأ أن حالة الانقسام هذه استمرت حتى بعد سقوط البلد تحت الاحتلال الأميركي. لا بل إن الاحتلال أصبح سبباً آخر يضاف إلى أسباب الفرقة والاختلاف، وليس للوحدة، وتجاوز الخلافات. فالشيعة يقبلون الاحتلال انطلاقا من أنه واقع فرض نفسه، وواقع مؤقت تفرض الظروف التعامل معه. كذلك فإن خروج قوات الاحتلال من دون ترتيبات وإقامة سلطة بديلة يعني عودة النظام السابق. الأكراد يتفقون مع الشيعة في هذا الموقف، لكنهم يختلفون معهم في الهدف. أما السنة فيختلفون معا الاثنين حول هذه المسألة. من هنا بدأ التداخل، والتقاطع بين الأهداف الأميركية من ناحية، وبين الأهداف العراقية من ناحية أخرى. الأهداف الأخيرة غير واضحة أو محددة، وأكثر من ذلك غير متفق عليها بين الأطراف العراقية. والأهداف الأميركية، من ناحية أخرى، غير معلنة، وبالتالي تتسم السياسة الأميركية حيال مستقبل العراق بالغموض كذلك.
في هذا الإطار تتضح دلالة المؤشرات على استمرار تردي الأوضاع السياسية في العراق بشكل يبعث على القلق. من أهم هذه المؤشرات: أول المؤشرات أن القوى السياسية العراقية تشكلت تحت الاحتلال ليس على أساس وطني يعكس التطلع نحو وحدة العراق، بل على أساس إما طائفي أو عرقي. فالشيعة يلتفون حول آية الله السيستاني، أو حول قيادة مقتدى الصدر، إلى جانب المنظمات الشيعية التي تشكلت أثناء مرحلة الشتات. والسنة شكلوا ما أسموه هيئة العلماء المسلمين. والأكراد تمثلهم الأحزاب نفسها التي كانت تمثلهم قبل الاحتلال بسنوات. حتى المقاومة تبدو وكأنها مقتصرة على طائفة السنة دون غيرها. أياً يكن، هناك مقاومة، وهي مقاومة موجعة أحيانا. لكنها مقاومة من دون غطاء سياسي، أو هدف سياسي واضح غير طرد قوات الاحتلال. ثم إنها مقاومة أخذت مؤخرا توجِّه ضرباتها للعراقيين وليس للقوات الأميركية.
كلتا هاتين الصفتين، افتقاد الغطاء السياسي واستهداف العراقيين، قد تؤديان بهذه المقاومة إلى أن تتحول إلى عمليات عنف مجاني، مما يدفع باتجاه تفجير خيار الحرب الأهلية. ثم إن هذه المقاومة تنطلق مما يعرف بالمثلث السني، مما يعني أنها مقاومة سنية في الأساس. طبعا الكل يتحدث عن أن سنة العراق يشعرون بأن عليهم دفع ثمن الماضي السياسي للعراق، وتحديدا ثمن النظام السياسي السابق. ومن الطبيعي أن يرفض السنة هذا المنطق. لكن الأهم هنا هو طريقة الرفض من ناحية، ومدى تورط القوى الأخرى في المنطق ذاته، من ناحية أخرى. على هذا الأساس يعتمد إن كان مستقبل العراق يتجه نحو الاستقرار والازدهار والحرية، أم نحو ظلمات حرب أهلية مدمرة.
بالنسبة للمراقب الخارجي لم