"واشنطن تعد مبادرة للديمقراطية في الشرق الأوسط". ليس في الأمر جديد. فالإدارة الأميركية تتحدث عن تغيير المنطقة منذ زمن طويل. بل، في غمرة التحضيرات للحرب على العراق، وبعدها، ومع سقوط مزاعم وادعاءات مسؤولي الإدارة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق كمبرر للحرب عليه، أعلن أكثر من مسؤول أميركي أن الهدف الحقيقي هو النفط وتغيير المنطقة انطلاقاً من التغيير في العراق. "المبادرة تستوحي معاهدة هلسنكي العام 1975 التي ساهمت في تفكيك الاتحاد السوفييتي".
في هذا التصريح توضيح. أو وضوح أكثر يدل على الإصرار على التغيير، والتغيير على أساس التمزيق والتفكيك للمنطقة العربية. ولمزيد من التوضيح يقول المنسق الإقليمي للمبادرة في وزارة الخارجية الأميركية ديفيد مولينكس: "إن الظرف الحالي هو أفضل الفرص السانحة لتنفيذ هذه المبادرة، وإن الموازنة الأميركية للعام الجاري رصدت 250 مليون دولار أميركي لدعم الإصلاحات الديمقراطية في دول المنطقة"!
ويضيف: إن الأولويات في البرنامج هي تشجيع التعددية عبر تشجيع الأحزاب السياسية وتمكين الأحزاب المعارضة من مواجهة الأوضاع وتعزيز الحياة البرلمانية ودعم سيادة القانون والقضاء. وهذا يعني بوضوح أن المال سينفق في الإعلام في إطار الترويج للمشروع وفي دعم الأحزاب والقوى السياسية التي تتبناه في هذه الدولة أو تلك. وبالتالي، يعني الدخول على كل الشؤون الداخلية بتفاصيلها في هذه الدول بل التدخل فيها لفرض التغيير المنشود! وعلى هذا الأساس يتم ترتيب العلاقات والزيارات والخطط والمشروعات مع عدد من القوى السياسية في دول عربية مختلفة.
وعند سؤاله عن الصراع العربي – الإسرائيلي، والواقع في العراق، وملاءمة الحديث عن الديمقراطية قبل معالجة هذين الموضوعين قال مولينكس بوضوح: من الطبيعي أن ينتظر الجميع العملية السياسية في العراق لكن هذا سيأخذ وقتاً... ويجب عدم ربط النجاح في ذلك في تونس مثلاً بالنجاح في العراق أو في انتظار الحل للصراع العربي – الإسرائيلي! وهذا يعني بدوره أن الأولوية ليست للاستقرار في العراق، ولا للسلام في المنطقة، بل للتغيير داخل الدول. وهذا يحقق أكثر من هدف في آن معاً. فهو يغطي على الفشل الأميركي في العراق، وعلى سقوط صدقية الإدارة الأميركية لا سيما في ما خص موضوع أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة في العراق من جهة، وعدم القدرة على توفير الأمن والاستقرار والمياه والكهرباء وفرص العمل للعراقيين من جهة ثانية، كما يغطي على الفضائح الأميركية في العراق، وعقود الشركات، وكذلك يحول الانتباه عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وعدم الالتزام بقرارات الأمم المتحدة، والشراكة الأميركية مع حكومة الإرهابي شارون. كل ذلك في إطار نظرة التغيير الشاملة للمنطقة التي تؤمن بها إدارة بوش وتستند في الأساس إلى السيطرة على النفط وتكريس دور إسرائيل الدولة المتفوقة استراتيجياً في هذه البقعة من العالم.
وتأكيداً لذلك يقول أحد المسؤولين الأميركيين: إن الإدارة الأميركية كانت قد تعهدت في الأساس بأن تخدم الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق، وإنشاء دولة فلسطينية كعامل مساعد لمسألة الديمقراطية لكن الولايات المتحدة تتأرجح الآن بين المسألتين لتوليد تغيير سياسي في المنطقة!
ليس في كل ذلك جديد أو شيء مفاجئ! فالسياسة الأميركية بأولوياتها واضحة تماماً ولم يعد أحد بحاجة إلى مزيد من الشواهد والوقائع بعد أن بات الأميركيون يعلنون عنها بصراحة. لكن المفاجئ إلى حد الصدمة التي لا توصف والخيبة التي تجاوزت كل الحدود والتوقعات، هو أن يكون رد الفعل العربي على المبادرة وظروفها وأهدافها الآنية والاستراتيجية، إعلان عدد من المسؤولين العرب أنهم "لم يسمعوا شيئاً عنها"!
هكذا بكل بساطة يعترف العرب بأن مصيرهم يُطرح على الطاولة وأن خططاً ومشروعات تعد لدولهم وهم لا يدرون شيئاً... بعد كل الذي جرى وبعد كل ما أعلن يقولون: لا ندري شيئاً... لم يتحدث إلينا أحد... لم يعرض علينا شيء. وكأن أصحاب المبادرة يقيمون وزناً لهؤلاء المسؤولين أو يحترمون شركاء أو أصدقاء! إنهم – أي الأميركيون – يبحثون عن مصالحهم فقط. ويتخلون عن كل شيء وعن أي طرف من أجلها.
والملفت في الأمر أن في العالم أصواتاً ترتفع وتطالب بقيام نظام متعدد الأقطاب وأن ثمة حركة تسعى إلى الحد من اندفاعة مشروع الهيمنة والتفرد الأميركي بالقرار على العالم. وثمة داخل أميركا وبريطانيا من ينتقد بوش وبلير على سياستهما وخياراتهما ويعتبرون أنها تشكل تهديداً للعالم بأسره. وثمة مواقف تعلن وتؤكد أن كل هذه التطورات تعزز صدقية الأمم المتحدة وتسقط صدقية أميركا ويؤيد هذا القول عدد من المفكرين والسياسيين الأميركيين فيما يؤكد الرئيس الفرنسي أن السلام العالمي مهدد إذا لم يقر السلام في منطقة مهد الحضارات... أي منطقتنا. وهذه كلها عوامل لمصلحتنا ويمكن الاستناد إليها ليكون العرب جزءاً من حركة التغيير في العالم، وحزءاً مهماً في عملية بناء نظام ع