في المجتمعات التقليدية المحافظة تعيش المرأة بين الغياب والحضور، الغياب التام بالنهار، والحضور الكاسح بالليل. ففي الحياة العامة تغيب المرأة من الصباح إلى المساء. لا تسير بالطرقات، ولا تحضر الندوات، ولا تناقش في الحوارات. صوتها وحضورها بل وجودها عورة. تمني الموت لهن أفضل من تمني الحياة. فهن عورة المجتمع، ونقطة ضعفه، ومصدر فتنة لرجاله (إن كيدكنّ عظيم)..
فالرجل هو المحكم صاحب القول الفصل، والمرأة هي المتشابه الغامض المشترك اللعوب. والمحكم أقوى من المتشابه. الرجل هو المبين الواضح كالسيف، والمرأة هي المجمل الذي في حاجة إلى بيان، الغامض الذي في حاجة إلى وضوح. الرجل هو الحقيقة الذي لا يعنى خطابه إلا معنى واحدا، والمرأة مجاز تقول ما لا تعني، وتعني ما لا تقول. تتغطى وتريد السفور. وتتحجب لمزيد من إظهار جمال العينين المكحلتين. وكم من حجاب مرصع باللآلئ يظهر الفتنة ويكشف عن جمال الوجه، والرأس مغطى. الرجل هو العام الذي يتصدى لعظائم الأمور، والمرأة هي الخاص التي تعكف على بيتها، أولادها وزوجها كما هو الحال في المجتمعات التقليدية مثل اليابان وفي الغرب في المثالية الألمانية، فخته (فيلسوف ألماني من القرن التاسع عشر) نموذجاً. الرجل هو الآمر الذي يقود ويسود وكل شيء مباح له. والمرأة هي النهي في دائرة الحرمان والمنع وكما هو الحال في جرائم الشرف فى السلوك الشعبي. يطلق الرجل، مطلق السراح، والمرأة هي التي تدفع الثمن، وكما هو الحال في الأمثال العامية "شرف البنت زي عود الكبريت". أما شرف الرجل فعلبة ثقاب لا تنتهي.
وشدة الحرمان بالنهار تؤدي إلى كثرة الإشباع بالليل. المرأة في حد ذاتها كجسد وليست كإنسان مشارك في الحياة العامة كزميل للرجل. بل تتعدد المرأة فلا تكفي واحدة. فالمطلوب أي امرأة، بعد طول انتظار. فتتعدد الزوجات والإماء للتسرِّي. حتى إن الطهطاوي رائد التنوير فى "المرشد الأمين" عقد فصلا عن التسري بالنساء. المرأة مجرد عضو جنسي، حاجة بيولوجية لقضاء الوطر. محجبة أو منقبة بالنهار، وسافرة عارية بالليل. بالنهار يُتـّبع النهي والحظر والحرام، وبالليل يُتمتع بالحلال والمباح. والمرأة في كلتا الحالتين بين الحظر والإباحة، بين الحرام والحلال، بين النهي والأمر.
وإن لم تكفِ الزوجات الشرعيات فهناك إماء العصر، الشغالات الآسيويات خاصة غير المسلمات والفلبينيات. فهن (وما ملكت أيمانكم) وكما صور أحد الروائيين المعاصرين في رواية "بيع نفس بشرية". وماذا تفعل "شغالة" أمام سطوة الرجل؟ فهو الكفيل القادر على إرجاعها إلى وطنها فتعجز عن إطعام الأهل والأولاد. ومن يشتكيه للقضاء وهو في الوقت نفسه القاضي والجلاد؟
وإن لم يستكف بالزوجات الشرعيات والتسري بالإماء فإنه يهبط إلى حيث يتزوج المسنون الشابات في القرى. والتبرير الشرعي قائم من تاريخ الأنبياء. والأب في حاجة إلى بيع الابنة كي يقيم أود إخوتها. فزواج البنت سترها. والرجل لا عيب فيه إلا جيبه. وستعيش البنت واهمة في بحبوحة من العيش وهي تضرب كل يوم ثم ترجع حاملة طفلها، مطلقة حتى يسترها قريبها الفلاح بالزواج من بنت الأهل والقرية.
وكما يفعل الرجل بالمرأة بسبب غيابها بالنهار وحضورها بالمساء كذلك تفعل المرأة بالرجل بسبب غيابه بالنهار وربما غيابه بالمساء. فتشبع حاجاتها هي الأخرى مع الرجل أي رجل، سائق أو خادم أو في زيارة سياحية أو طبية خارج البلاد. لا يختلف وضع الأسرة في المجتمعات التقليدية عن المجتمعات المتقدمة في السلوك الانفرادي للرجل والمرأة. اختلاف في الظاهر، واتفاق في الباطن، والطرفان يلتقيان. وهذا هو التاريخ، من هارون الرشيد إلى السلطان عبدالحميد.
المرأة هنا جزء من الثالوث المحرم: الدين والسياسة والجنس. هي مجرد رمز أو علامة لما يحدث في المحرّمين الآخرين: الدين والسياسة. وما أسهل أن يتحول الخاص إلى العام، والجنس أي المرأة إلى الدين. والسياسة، فالنموذج واحد. والبنية الذهنية والاجتماعية واحدة. المنع والقمع والإزاحة والقهر والتسلط من طرف، والكبت والحرمان الذي يؤدي إلى الإفلات من طرف آخر. وما يحدث في الفضاء الخاص يحدث في الفضاء العام. وما يقع في الحياة الخاصة يقع أيضا في الحياة العامة.
المرأة حجاب، وكذلك السياسة والدين: حجب وتستر وتخفّ. المؤسسة السياسية أيضا نخبة عرقية أو طائفية لا يخرج الملك منها، بالوراثة أو الانقلاب، من قريش أو الجيش. والحوار الوطني فيها قاصر على نخبة محدودة من أهل الجاه. وكثير من النقاش حول الإصلاح يدور في الخفاء.
والمؤسسة الدينية أيضا تعمل في الخفاء. تمتلك الحقيقة المطلقة مثل الذكر. ولا تعترف بالرأي الآخر ولا بالموقف المعارض مثل الأنثى، تحكم في الخفاء مباشرة بالتعاون مع السلطة السياسية أو على نحو غير مباشر عن طريق الموروث الذي يغلب عليه طابع المحافظة وليس التجديد، وأحد التيارات النصية المحافظة في الإصلاح الديني الأخير ومن أوائل تياراته.
وكما يفعل الرجل في العلن والمرأة في السر، تفعل السلطة