اتخذت حركة الرفض أو التمرد المعادي للحكومة في إقليم دارفور طابعها السياسي منذ عام واحد أو أكثر من ذلك قليلاً. ذلك أن ما كان جارياً في هذا الإقليم قبل هذا كان له طابع إجرامي أسلوبه الأول هو النهب المسلح. لم يكن هناك هدف غير الكسب الذاتي واستغلال السلاح الذي توفر بكميات وأنواع مختلفة كأثر من آثار الصراعات المسلحة وعدم الاستقرار سابقاً في القطرين المجاورين للسودان في الغرب والجنوب الغربي وهما على التتابع جهورية تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى. لقد تولت طلائع من أبناء هذا الجزء من السودان القضية وانتقلت بها نقلة نوعية جعلت من حركتهم المسلحة حركة لها أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية محددة. إن جوهر مطالبهم هو تنمية المنطقة ورفع مستوى الخدمات فيها والقضاء على تهميشها في كل جانب.
وعلى رغم هذا التحول فإن الخرطوم ظلت تتعامل مع هذا الذي صار واقعاً في دارفور على أساس ما كان سائداً من جنوح للنهب والسلب، ولم تتبين الحكومة أبعاد الوضع وخطورته إلا مؤخراً. وحتى ذلك كان بصورة مبتورة وناقصة ولهذا فقد استمر الصراع المسلح على رغم محاولة القمع عسكرياً، بل وعلى رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم قبل بضعة شهور بمشاركة مقدرة من رئيس جمهورية تشاد.
ولهذا كله فإن الوضع ما زال ملتهباً ومؤهلاً للتصاعد على رغم إعلان رئيس الجمهورية يوم الاثنين الماضي التاسع من فبراير الحالي أن العمليات العسكرية في دارفور انتهت وأنه أعلن عفواً عاماً عن المقاتلين الذين يلقون أسلحتهم لمدة تستمر لشهر واحد. ولم تمضِ ساعات على إعلان البشير، حتى أفاد قائد حركة تحرير دارفور أن القتال مستمر ولن يتوقف إلا بعد أن يستجاب لمطالب الحركة، وقال فيما قال إن حركتهم تسيطر الآن على نحو ثلث مساحة الإقليم.
إن تدفق أعداد كبيرة من المواطنين الفارين من ديارهم إلى داخل حدود تشاد حتى كتابة هذه السطور يعني أن ما أعلنه قائد ما يسمى حركة تحرير دارفور (الاتحادية) هو الأقرب إلى الواقع. إن الوضع المأساوي على الحدود جعل الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة السيد كوفي عنان يعرب عن قلقه في تصريح له صدر في اليوم التالي لتصريح الرئيس البشير وتعليق قائد التمرد عليه.
إن احتواء ما يجري في دارفور في حدود قدرات السلطات الحاكمة في السودان على مستواها الإقليمي المحلي أو المستوى المركزي صار أمراً عسير المنال، وقد تعددت وتكاثرت في الأسابيع الأخيرة إشارات الالتفات والاهتمام بما هو ماثل في هذا الإقليم من السودان لا سيما في العاصمتين الأميركية والبريطانية. ثم إن حركة تحرير دارفور نفسها قد دعت علانية إلى ضرورة التدخل الأجنبي لحسم هذا الصراع تماماً كما هو حادث في جنوب السودان. وإذا صحت قراءتنا لهذا الواقع الحالك فإن المستقبل القريب ينذر بتدخل أجنبي آخر لإطفاء بؤرة من بؤر الصراع في السودان قد تكون أبعادها أشد خطراً وهولاً مما جرى في الجنوب.
وكل هذا يصب في سجل الخطايا التي جاءت وليدة سياسات خرقاء ظل السودان يعاني منها لا سيما في ظل عهد (الإنقاذ) الحالي.