ما هي المسافة التي تبعد بين ديفيد كيلي الذي ذهب ضحية لمعلومة أن العراق قادر على نشر الدمار الشامل خلال 45 دقيقة، وعبدالقدير خان أبو القنبلة النووية الباكستانية بعد أن نحّاه الرئيس الباكستاني عن منصبه إلى كرسي الاتهام مباشرة في قضية تسريب أسرار نووية لكل من ليبيا وإيران وكوريا الشمالية؟.
"كيلي" ذهب إلى ربه مثيراً عاصفة لم تهدأ إلى الآن وقد جعل المستقبل السياسي لبلير على المحك لولا نتائج تحقيقات القاضي الذي أنقذه من السقوط المتوقع، وإن كانت العاصفة لم تترك رئيس الـ"بي بي سي" ومديرها العام بخير. وبناء عليه سوف يتغير مسار العلاقات الإعلامية بين الحكومة البريطانية وهيئة الإذاعة من الناحية التحريرية.
أما في باكستان فمصير عبدالقدير خان الذي كان في يوم ما مفخرة وصمام أمان حفظ توازن الردع النووي بين باكستان والهند، أصبح اليوم ومجموعته من زملاء المهنة في قفص الاتهام مع العفو الرئاسي المنقوص بعد الاعتراف بجريرة حسن النية التي اشترك فيها مسؤولون كبار في الحكومة الباكستانية· الفرق بين ديفيد كيلي وعبدالقدير، هو الفرق ما بين أمة تحيي أبناءها من الموات وأخرى تأكلهم وهم أحياء كالقطط إذا جاعت أكلت المتيسر من فلذة أكبادها.
إن محاربة الإرهاب لم تترك مجالاً لفرد عالماً كان أو عابر سبيل من عدم الدخول في لائحة الاتهام دون أن يجد مدافعاً عن حقوق الإنسان يقوم بواجبه أو مدافع تقصف اللائحة المشؤومة من الجذور فتريح العالم أجمع من ويلاتها.
إن الأمة بجناحيها لم تعد قادرة على التمسك بمكتسباتها في أي مجال، ورضوخها القوي لأقل الضغوط يجعلها تستسلم وتسلم الأول والتالي عند أول طلب· هذا في الوقت الذي بدأت أميركا بمراجعة لائحة الاتهام الخاصة بأسرى "جوانتانامو" وإطلاق سراح البعض لأنهم ذهبوا ضحية للضبط العشوائي ومورست ضدهم سلوكيات حاطب الليل، وكذلك إسرائيل التي بدأت تبحث عن رفات أمواتها في كل مكان.
فالمبدأ القانوني الذي بدأ في الانتشار منذ الحادي عشر من سبتمبر هو أن البريء متهم حتى تثبت إدانته وليس العكس. وكل حدث في العالم يتم تسليط الضوء عليه أولاً تحت اللائحة الكريهة. دائرة الشبهات توسعت أكثر من اللازم والثقة التي كان ينعم بها الغرب في تعاملاته لقرون ذهبت سدى مع هبوب رياح الإرهاب الحقيقي والوهمي في آن واحد.
ومع ذلك كله، فإن المدافعين عن كيلي في الغرب والشرق كثر، كتاباً كانوا أو صحافيين وقانونيين، أما عندما يكون المتهم عبدالقدير فلا ينال غير الجزاء المنقوص رداً على خدماته الجليلة في الزمن السابق، والتي تحولت في الزمن الحاضر إلى سلعة أقرب إلى منتجات غسيل الأموال وما شابه. أما في الهند فقد تم تكريم عالمها أبو الكلام بتولي سدة رئاسة الدولة وإن كان منصباً شكلياً فهو أفضل حالاً من العبد الضعيف في باكستان الذي ينتظر شفاعة الشافعين الذين قاموا بتشجيعه على إنتاج أول قنبلة نووية إسلامية. وقد جاء اليوم الذي يهين فيه المرء العالم بعد أن كان في أعداد الذين يضرب بهم المثل في الإبداع والابتكار. ولكن يبدو أن الأمة العربية والإسلامية وصلت إلى مرحلة الشجرة التي لم تجد ما تأكله فأكلت نفسها.