الغش كما يذهب "ديفيد كالاهان" الصحفي، والمعلق التلفزيوني، والحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة "برنستون" لم يعد يقتصر على عالم الجريمة السفلي، ولا على النصابين في الأسواق، أو حتى طاولات القمار، وإنما أصبح شيئا متغلغلا في كل ركن من أركان المجتمع الأميركي. فكل شخص في هذا المجتمع قد يلجأ في سبيل مصلحته للنصب على الآخرين، والضحك على ذقونهم، متى ما ظن أنه بإمكانه أن يفعل ذلك، وينجو بفعلته. هذه هي الفكرة العامة للكتاب الذي نقوم بعرضه في هذه المساحة وعنوانه: "ثقافة الغش: لماذا يرتكب الأميركيون الأخطاء كي يتقدموا إلى الأمام". والمؤلف يرى أن سبب انتشار الغش في المجتمع الأميركي يرجع إلى المنافسة الشرسة في البيئة الأميركية بشكل عام، والاقتصادية بشكل خاص، وما أصبح سائدا فيهما من قيم تركز على النتائج في المقام الأول، بصرف النظر عن الوسائل المتبعة في تحقيقها. ففي هذه البيئة التي يسودها الطمع، لم تعد الأخلاق بذات بال، وإنما الذي أصبح كذلك هو مسائل مثل: كم ربحت؟. وهل حققت هدفك؟ وهل نجحت في القضاء على المنافسين الآخرين أم لا ؟ والمشكلة أن ذلك أصبح يحدث دون محاسبة للخارجين على القانون في كثير من الحالات، وكأن ما يقومون به قد أصبح شيئا مقبولا ومتعارفا عليه ضمن منظومة القيم الثقافية للمجتمع الأميركي. ويقول المؤلف إن من ضمن الأسباب التي أدت إلى تلك الحالة سيادة مفاهيم مثل أن من يمتلك القوة يمكنه أن يلتهم الضعيف، ومن يمتلك النفوذ والثروة يمكنه أن يدوس على الفقير، وهي مفاهيم يرى المؤلف أنها قد انتشرت على نطاق واسع في المجتمع الأميركي خلال العقدين الأخيرين اللذين تعرض خلالهما الاقتصاد الأميركي لتقلبات عديدة، جعلته يتأرجح بين الانتعاش والكساد، ما أدى إلى خلق حالة من عدم الاستقرار، والتوجس مما قد تأتي به الأيام، بين أفراد وقطاعات هذا المجتمع. والأمثلة على حالات الغش في المجتمع الأميركي عديدة ولا حصر لها.. كما يقول المؤلف. ومنها على سبيل المثال الممارسات الإجرامية المخالفة للقانون التي قامت بها شركات أميركية كبرى، مثل " انرون"، و"ورلد كوم" وجلوبال كروسينج" والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة سواء داخل أميركا أو خارجها. وكان قصد المؤلف من اختيار عينة من الشركات الكبيرة تحديدا، هو أن يثبت لنا أن الغش قد طال حتى الشركات التي تمثل أعمدة الاقتصاد، ولم يعد مقتصرا على الشركات صغيرة الحجم، أو حتى المتوسطة كما كان الأمر في السابق. يقول المؤلف أيضا إن هذه الأساليب القائمة على الغش والنصب لا تقتصر على المجال التجاري فحسب، بل امتدت لتشمل مجالات أخرى كالمجال التعليمي، والمجال الرياضي، ووسائل الإعلام الإخبارية، وبالطبع المجال الشخصي. والمشكلة بالنسبة لما يحدث حاليا من غش في معظم قطاعات المجتمع، أن الذين يرتكبونه لا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم غشاشون، وإنما يصرون على أن ما يفعلونه مشروع وله ما يبرره. وعلى رغم أن معظمهم يؤمن في قرارة نفسه بأن الأمانة من الفضائل المرغوبة، إلا أن إيمانهم هذا لا يحول بينهم وبين الغش، وذلك لإيمانهم بشيء آخر في الوقت نفسه، وهو أن المرء لا يستطيع أن يحقق ما يصبو إليه من أهداف وغايات ورغائب في هذا المجتمع إلا من خلال هذا الطريق، أما اتباع أسلوب الأمانة والشرف، فيمكن جدا أن يعرضه للوقوع في براثن الغشاشين والنصابين. والظاهرة الملحوظة حاليا أن الكثيرين في المجتمع الأميركي لم يعودوا يخافون من القانون، كما أن أجهزة الأمن لم تعد تتعامل بحزم مع حالات الغش كما كان الأمر في السابق، بل تراخت قبضتها على الأمور إلى حد كبير. يقول المؤلف أيضا إن هناك مفهوما قد أصبح سائدا في المجتمع الأميركي، هو أن من لا يقوم بالغش يعتبر شخصا متخلفا عن عصره، وأن الوقوع ضحية للغش سيكون مصيره لا محالة. وهناك الكثير من الحالات التي يتحدث عنها "كالاهان"، الذي يقول إن التدليل على صحة وجهة نظره، لم يتطلب منه جهدا كبيرا لأن تفشي الغش في المجتمع قد غدا أمرا واضحا لكل ذي عينين.
بعض النقاد يأخذون على المؤلف موقفه هذا.. ويقولون إن اكتفاءه بإيراد عدد محدود الأمثلة، قد لا يفيد كثيرا في التدليل على صحة طرحة.. وإن كتابه -لهذا السبب تحديدا- يبدو أقرب في شكله لأن يكون مجرد تحقيق صحفي طويل نوعا ما، وليس كتابا جامعا، أو أنه على أحسن تقدير.. أكبر من التحقيق الصحفي، وأصغر من الكتاب. بيد أن هذا الرأي من جانب النقاد لا ينال من قيمة الكتاب، ولا ينال من صحة أطروحات المؤلف، أو من سلامة المنهج الذي اتبعه في عرض تلك الأطروحات. والقارئ العادي في أميركا لم يكن في حاجة إلى مثل هذا الكتاب كي يعرف أن الغش قد أصبح هو الممارسة السائدة في المجتمع، لأنه يرى ذلك أمامه يوميا، وفي كل مكان تقريبا. وربما تكون الفائدة التي يخرج بها هذا المواطن من كتاب كالاهان هي تأكده من أن رأيه وحكمه على ما كان يراه صحيح، لأنه ليس رأيه أو حكمه وحده، وإنما هو أيضا رأي كتاب ومؤلفين من الصفوة المثقفة التي تمتلك